{معصيةً أَوْرَثَتْ ذُلاًّ وافتقاراً خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عِزاًّ واسْتِكْبَاراً}
قلت : إنما كانت المعصية التي توجب الانكسار أفضل من الطاعة التي توجب الاستكبار؛ لأن المقصود من الطاعة هو الخضوع والخشوع والانقياد والتذلل والانكسار(أناعند المُنكسِرة قُلوبهُم من أجلي) فإذا خلت الطاعة من هذه المعاني واتصفت بأضدادها، فالمعصية التي توجب هذه المعاني وتجلب هذه المحاسن أفضل منها ، إذ لا عبرة بصورة الطاعة ولا بصورة المعصية، وإنما العبرة بما ينتج عنهما، (إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَعْمَالِكُمْ وإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ) فثمرة الطاعة هي الذل والانكسار، وثمرة المعصية هي القسوة والاستكبار، فإذا انقلبت الثمرات انقلبت الحقائق، صارت الطاعة معصية والمعصية طاعة، ولذلك قال المحاسبي رضي االله عنه : (إنما مراد االله سبحانه من عباده قلوبهم، فإذا تكبر العالم أو العابد وتواضع الجاهل والعاصي وذل هيبة لله عز وجل وخوفاً منه، فهو أطوع الله عز وجل من العالم والعابد بقلبه) وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي االله عنه : (كل إساءة أدب تثمر أدباً فليست بإساءة أدب)، وكان رضي االله عنه كثير الرجاء لعباد االله، الغالب عليه شهود وسع الرحمة، وكان رضي االله عنه يكرم الناس على نحو رتبتهم عند االله، حتى أنه ربما يدخل عليه مطيع فلا يبالي به، وربما دخل عليه عاص فأكرمه، لأن ذلك الطائع أتى وهو متكبر بعمله وناظر لفعله، وذلك العاصي دخل بكثرة معصيته وذلته ومخالفته) قاله المصنف في لطائفه، وقال أبو يزيد رضي االله عنه : (نوديت في سري خزائني مملوءة بالخدمة، فإن أردتنا فعليك بالذلة والافتقار) وقال رسول االله صلى االله عليه وسلم : (لمْ تُذْنِبُوا لَخَشِيتُ عليكُمْ ما هو أَشَدُّ مِنْهُ العُجْبَ العُجْبَ) كذا في الصحيحين، وقال عليه السلام :( لولا أنّ الذنب خير من العُجّب ما خلا الله بَيْنَ مُؤمن وذنب أبدًا) وقال الشيخ أبو مدين رضي االله عنه : (انكسارُ العاصي خيرٌ من صَولة المُطيع) وقال شيخ شيوخنا رضي االله عنه : (معصية باالله خير من ألف طاعة بالنفس) ومعنى كلام الشيخ أن العبد إذا أجريت عليه زلة لم يقصدها بقلبه، وإنما جرَّته القدرة إليها رغماًعلى أنفه ثم ندم وانكسر فهي في حقه خير من ألف طاعة يشهد فيها نفسه ويتبجح بهاعلى عباد االله.
فأشار إلى الفرق بين معصية الولي ومعصية الفاسق وذلك من ثلاثة أوجه : الولي لا يقصدها ولا يفرح بها ولا يصر عليها، والفاسق بالعكس في الجميع، وقيل للجنيد :(أيزني العارف ؟ فقال : وكان أمرُ االله قَدَراً مقدوراً) لكن معصية الولي حدها الظاهر، ولذلك قال ابن عطاء االله : "ليت شعري لو قيل له أتتعلق همة العارف بغير االله لقال لا".
إيقاظ الهمم في شرح الحكم