الحقائق العرفانية
أجمع الصّوفية على اختلاف طرقهم ومناهجهم، على أنّ لُباب التصوّف هو ما ينكشف للصّوفي من حقائق عرفانيّة وأنوار ربّانية، من جهة الفتح الإلهي والوهب الرّحماني، نتيجة ملازمتهم أصول الطّريق والتزامهم مختلف الآداب والأخلاق والعبادات والمجاهدات والأسفار الرّوحية والبدنيّة الشّاقّة، وتتميّز هذه المعارف من صوفي إلى آخر لتتلوّن بتجربته الدّاخلية، فيعرضها في نسق خاصّ، ولمعاينة طبيعة معارف أقطاب الصّوفية، لا بدّ من الوقوف على أقوالهم والبحث في مقولاتهم، لتحديد مضامين القيم المعرفيّة والكشفيّة للتصوّف.
أخذت المعرفة لدى أساطين الصّوفية أبعادا حسّاسة، لأنّها ليست كأيّ معرفة طبيعيّة محسوسة أو حتّى عقليّة مجرّدة تُحَلّ بالتّخمين والمنطق ووضع الفرضيّات واستنتاج النّتائج، لأنها تتعلّق بمعروف ليس كمثله شيء، لذلك وضع الصّوفية الفروق بين المعرفة والعلم، ومنها أنّ نهاية العلم هي بداية المعرفة وإلى ذلك أشار الإمام القشيري، فإذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم في النّقصان بزيّادة المعارف آالسّراج في ضوء الشّمس» (الملطاوي، 1999 ،ج.318 ص،1).
والمعرفة لدى النفري ما كان طريقه القلب، وهي ما أثبتت للخالق حقّا ومَحَت حقّ العبد، أمّا العلم فهو ما أثبت حقوق العبد: «فكلّ ما أثبت لك حقّا فعلم، وكلّ ما أثبت عليك -لا لك- حقّا فمعرفة» (النفري، 2001 ،ص 39 ،40)، فإذا تحقّق العارف بالمعرفة صار العلم له دابّة يمسك زمامها ويسير بها إلى حيث شاء: «إذا عرفتَ معرفة المعارف جعلتَ العلم دابّة من دوابّك وجعلتَ الكون كلّه طريقاً من طرقاتك»، فالكون ينقل السّالك إلى المكوّن، والعالَم إنّما سمّي كذلك لأنّه كان علامة على الحقّ تعالى (التلمساني، 1997 ،ص172 ،173).
ووضع الصّوفية التّعارض بين المعرفة والجهل، فاستحبّوا الجهل لأنّه دليل على المعرفة، أمّا إذا أصرّ العبد على المعرفة، فلا يورّثه ذلك الإصرار أبعد من الجهل، ولذلك قال البسطامي: «لا يزال العبد عارفا ما دام جاهلا فإذا زال عن جهله زالت معرفته»، لأنّ العارف إذا اعتقد ثبات الحقيقة الّتي وصل إليها، انتهت معارفه وصار مخدوعا بعلمه وانقلب له ذلك العلم حجابا عن الحقّ، بدلا من أن يصبح بداية استشراف لحقيقة لا تزال مطويّة في غياهب الجهل.
وفي وقفتين ربّانيتين، ذكر النفري خطورة الرّؤية والعلم على غير المتحقّق فقال في الأولى: «العلم على من رآني أضر من الجهل»، وقال في وقفة روحانيّة أخرى: «الحسنة عشرة لمن لم يرني والحسنة سيئة لمن رآني»، ولصاحب المواقف مقولات في المعرفة أثبتت أنّ الجهل ليس هو ما تعارض مع المعرفة، فنفي الجهل لا يحقّق معرفة لأنّه ليس نقيضها، ومعنى هذا أنّهما لاَزِمَان، فمن لم يستقر في الجهل لم يستقر في العلم، والمعرفة التي ما فيها جهل هي المعرفة التي ما فيها معرفة (التلمساني، 1997 ،ص 207).
المعرفة
وحقيقة العبادة لدى الجنيد هي المعرفة، لأنّ أوّل عبادة االله عزّ وجلّ معرفته، وأصل معرفة االله توحيده بنفي الصّفات عنه بالكيف والحيث والأين، وتعلو المراتب بالصّوفي في تصديقه من الأدنى إلى الأعلى، فيقع له الترقّي إليه والاتّصال به (عبد القادر، 2003 ،ص 58) وهو ما يتوافق مع رؤية أبي بكر الشّبلي، في كون أصل التصوّف توحيد الخالق، فـ«التصوّف بدؤه معرفة االله ، ونهايته توحيده» .( غير أنّه ليس كلّ راغب يقع له الكشف العرفاني، لأنّ ذلك يتوقّف على قدرة الصّوفي على حمل العلوم اللّدنية وتأهيله الفكري، وإذا كان التصوّف بهذا المعنى هو التأهل لمعرفة االله، فإنّ من لا تتوفّر فيه الخصائص الرّوحية والنّفسية والعقليّة للنّفث الرّوعي، ووراثة العلوم النبويّة والأسرار الإلهية، لا يجاوز دور العبادة رحمة به ورأفة بحاله، وقد باح البسطامي بذلك في قوله: «اطّلع االله على قلوب أوليّائه فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفا، فشغلهم بالعبادة».
والمقصد الأسنى من التصوّف، بلوغ أعلى مراتب المعرفة باالله، وأسمى درجات اليقين في التوجّه إليه، ومن هنا فإنّ الغاية المعرفيّة لا تأتي إلاّ بعد المكابدة والبحث، لأنّها إلهامات ما كان لها أن توجد إلاّ بأساس فكري سابق، قوامه فهم في معاني القرآن وأسرار الشّريعة، فجوهر التصوّف استقامة المناهج.
إنّ أغلى غايات الرّاغب الوصول إلى مقامي الكشف والمشاهدة وبلوغ الاتّصال، ورحلة
الصّوفي في بذل المجهود لمشاهدة المعبود، لا تتمّ إلاّ بقطع العلائق والحُجُب، الّتي تشمل كلّ ما يشغلهم لحظة عن ربّهم، فأشدّ المحجوبين عن االله لدى البسطامي ثلاثة بثلاثة: «فأوّلهم الزّاهد بزهده، والثّاني العابد بعبادته، والثّالث العالم بعلمه»، وكلّما تقدّم الصّوفي في توسيع معرفته باالله، زاده ذلك تأخّرا وجهلا، لأنّ المعرفة في ذات الحقّ جهل، لذلك قال: «لا يزال العارف يعرف والمعارف تعرف حتّى يهلك العارف في المعارف، فيتكلّم العارف عن العارف ويبقى العارف بلا معارف» فلا يستبعد أن يسير الصّوفي إلى هلاكه وهو يعتقد أنّه يقترب من ضالّته.
أمّا الجنّة فهي الحجاب الأكبر الّتي تبعد الواصل عن ربّه، لأنّ أهلها سكنوا إليها، وكلّ من سكن إلى غير االله فهو محجوب، وعبّر البسطامي عن هذه الفكرة في مقولة عكست ما ينشده العارف من آخرته بقوله: «لله عباد لو بدت لهم الجنّة بزينتها لضجّوا منها كما يضجّ أهل النّار من النّار»، وهذا الانصراف عن زينة الآخرة له غاية واحدة هي طلب الحقّ، لذلك فضّل البسطامي جنة معرفة الخالق ووصاله وقربه منه، مثلما أنّ أعلى فائدة المحبّ وجود محبوبه .
ولم تنهض فيهم الجنّة طموح المـُلْتَذّ إلى الحور والقصور والخمور، لأنّ مفهومها تعرّى عن جانبه المادّي وانتفت النّظرة البراغماتية الّتي تخلقها العبادة بين الربّ والعبد، لأنّ العابد لا يرجو من عبادته الفوز بالجنّة والنّجاة من النّار، وإنّما مبتغاه القرب من الحقّ.
وعبّر الصّوفية عن هذا الالتيّاع لحضرة الحقّ بقولهم: «التصوّف هو الإناخة على باب الحبيب وإن طُرِد عنه» فهذا الطّرد المعنوي لم يُلْقِ بالصّوفي إلى هوّة الاستسلام والانكسار والخيبة، وإنّما أشعل جذوة المحبّة في قلبه، وأنهض همّته نحو العمل والاجتهاد أآثر لبلوغ النّظرة الإلهيّة والمكاشفة الربّانية.
ولكن يجب أن نلفت إلى ما تعكسه هذه المقولة من حقيقة فناء الصّوفي في الحقّ، عند غلبة حال الوجد عليه لحظة غيّابه عن نفسه وسكرته عن رشده، ومنها إشارة البسطامي: «من عرف االله بُهِتَ ولم يتفرّغ إلى الكلام»، لأنّ المجذوب في حالة صعق وقد ينطق بلسان غير لسانه، عند توالي المشاهد الرّوحانية، فيكثر الشّطح ويلغز القول ويخرج عن المعقول، ولذلك حذّر أكابر الصّوفية من البوح بالأسرار الإلهيّة بعد الصحو.
وقد كَّز النّفري في كتاب "النّطق والصّمت"، على المشهد الصّامت وعلى لغة النّظر، فالنّطق إنّما يكون للمشهد لا للعبارة، بانتفاء القول، والسّكوت عن التّأويل، فاعتبر الحروف من جملة الحجب، لأنّ الحرف هو السّوى، والخارجون عن أنفسهم هم الخارجون عن الحرف (النّفري، 2001 ،ص 39).
وفضّل أساطين الصّوفية للمبتدئين الاستماع من الشّيخ كرزق يساق إليهم، أمّا القول فيمثّل ترجمة لفظيّة لتطلّعهم إلى إثبات شيء لأنفسهم (الجنابي، 2001 ،ص73). لذلك اعتبر جلال الدّين الرّومي الكلام ثوبا ينبغي أن يخلعه الإنسان، ويمزّقه لأنّه طبل أجوف، فالصّمت وعدم قرع طبل الكلام شيء مطلوب من العاشق تعبيرا منه عن حالة عشقية (شيمل، 1959 ،ص364 ،278).
وبهذا ارتبطت المعرفة لدى الصّوفي بالعلم الإلهي، لذلك اختلف منطوقه عن منطوق غيره، فشدّد على الكتمان والصّمت والرّمز وبذلك عَبَّر عن ذائقته الصّوفية في أحوال وجدانية غَـيْبِـيَّة خاصّة صَنَعَتْ وَحْيَ تجاربه الفريدة.
** ** **
مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الانسانية)
ليلى قــراوزان، ومحمد زمري