علاقة التوازن والتكامل بين الفقه والتصوف
* أ.د/حسين علي عكاش
علم الشريعة
اسم جامع للأعمال الظاهرة والباطنة؛ لأنه متى كان في القلب فهو باطن فيه إلى أن
يجري ويظهر على اللسان والجوارح ، فإذا تم ذلك فهو ظاهر(1) .
وتتجلى الأعمال
الظاهرة في العبادات والأحكام نحو: الطهارة والصلاة والصوم والحج وغير ذلك من
العبادات، أما الأحكام فتظهر في الحدود والطلاق والعتاق والبيوع وسائر المعاملات.
وتتمثل الأعمال
الباطنة في أعمال القلوب: نحو: التصديق والإيمان واليقين والصدق والإخلاص والمحبة
والتوكل والرضا والصبر والذكر والمعرفة والشكر والإنابة والخشية والتقوى والمراقبة
والخوف والر جاء والقناعة والقرب والشوق والوجد والوجل ومجاهدة النفس ومحاسبتها
وتخليتها من الرذائل وتحليتها بالفضائل، إلى غير ذلك من المقامات والأحوال التي
ذكرها الصوفية في مؤلفاتهم وعباراتهم التي رويت عنهم.
ويطلق على
معرفة الظاهر المتعلق بالعبادات والأحكام الفقه، وتسمى معرفة الأحكام المتعلقة
بأفعال بواطن القلوب وما يجري على هذه البواطن من أحكام بفقه الباطن أو بفقه
القلوب أو بعلم السلوك أو بعلم التزكية أو بعلم التصوف، والأخير هو أشهر المصطلحات
وأكثرها من علم الفقه منذ القرن متميزا تداولاًوذيوعاً قديماً وحديثاً.
وقد ظهر التصوف
بوصفه علما الثالث الهجري، وهذا يرجع بطبيعة الحال إلى تأخر التدوين في علم التصوف
عن تدوين الفقه والكلام والتفسير وغير ذلك من العلوم الشرعية، وهذا ما أشار إليه
ابن خلدون بقوله: "فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه وأصوله
والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة(2) في
طريقهم، فمنهم من كتب في الورع، ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك كما
فعله المحاسبي في كتاب (الرعاية)، ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها
ومواجدهم في الأحوال كما فعل القشيري في كتاب (الرسالة) والسهْرورْدي في كتاب (عوارف المعارف) ... وصار علم التصو ف في
الملة علماً مدوناً بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط" (3). ثم يصف ابن خلدون المقابلة بين علمي الفقه والتصوف بقوله: "وصار
علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا وهي الأحكام العامة في
العبادات والعادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم(4) في
القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس ، عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة
في طريقها، وكيفية الترقي فيها من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم
في ذلك" (5).
ومن ثم فالفقه
والتصوف على حد تعبير أحمد الزروق (899هـ)"شقيقان في الدلالة على أحكام الله
– تعالى- وحقوقه، فلهما أصل الحكم الواحد، في الـكمال والنقص، إذ ليس أحدهما بأولى
من الآخر في مدلوله" (6)، وهو ما نبه عليه اليوسي (1102هـ) أيضاً
بقوله: "... والتصوف هو ثمرة العلم ولبابه، وأحد ركني الدين، فإن الشريعة لها
ظاهر هو للفقهاء، وباطن وهو للصوفية، وقلما يكمل الأمر بينهما معاً؛ لهذا يقال: من
تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق (7) ، فمن أنكر هذا فقد أنكر الشريعة" (8) .
واهتمام
الصوفية بالفقه لا يخفى على ذي بصيرة وفهم، إذ الطريق الصوفي هو تطبيق عملي
للشريعة بشقيها الظاهري والباطني، غير أنهم في طريقهم إلى الله آثروا العزائم وتجنبوا الرخص
أو التوسع فيها، وركزوا اهتمامهم على معرفة الأحكام المتعلقة بأعمال القلوب: من
تواضع وكبر وعلم وجهل وصبر وجزع أكثر من تر كيزهم على أعمال الجوارح الظاهرة: من
بيع وشراء وزواج وطلاق، إذ تكفل بالـكشف عن معرفتها الفقهاء، كما أنهم يهتمون
بأسرار الأحكام الشرعية وحكمها وغاياتها الروحية، وهذا نجده واضحا ً جلياً في كتاب
(إحياء علوم الدين)للغزالي وغيره من كتب الصوفية (9) .
وهذا التداخل
بين الفقه والتصوف والارتباط الوثيق بينهما ظهر بوضوح في مقالات كثير من علماء
الصوفية في سياق بيانهم لحقيقة التصوف، ومن أولئك على سبيل المثال لا الحصر الجنيد
(297هـ) بقوله: "مذهبنا هذا: مقيد بأصول الكتاب والسنة"(10) ،
والتستري (283هـ) بقوله: "أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله – تعالى-،
والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب
الآثام، والتوبة ، وأداء الحقوق" (11) ، وأبو سعيد الخراز(277هـ) بقوله:
"كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل" (12) ، وأبو الحسين الوراق (319هـ)
بقوله: "لا يصل العبد إلى الله إلا بالله
، وبموافقة حبيبه في شرائعه، ومن جعل الطريق إلى الوصول من غير اقتداء يضل من
حيث ظن أنه مهتد"(13) ، والحكيم الترمذي بقوله: "فمن اتقى بالعلم الظاهر
وأنكر العلم الباطن، فهو منافق، ومن اتقى بالعلم الباطن، ولم يتعلم العلم الظاهر ؛
ليقيم به الشريعة وأنكرها فهو زنديق، وليس علمه في الباطن علم في الحقيقة، إنما هو
وساوس يوحي بها الشيطان إليه"(14) ، وأبو طالب المكي بقوله: "العلم
الظاهر والباطن أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، ومثله قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم" :إنما الأعمال بالنيات" أي: لا عمل إلا
بقصد وتدبر ؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم : "إنما" تحقيق للشيء ونفي
لما سواه فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات وأعمال القلوب من النيات"(15)
، وقال في موطن آخـــر: "ولعمري أن الظاهر والباطن علمان لا يستغنى أحدهما عن
صاحبه بمنزلة الإسلام والإيمان مرتبط كل واحد بالآخر كالجسم والقلب لا ينفك أحدهما
عن صاحبه"(16) ، فليس ثمت تصادم وتناقض بين الفقه الظاهر والتصوف المعبر عنه
في بعض الأحيان بالحقيقة، إذ المراد بالشريعة والحقيقة هي إقامة العبودية على
الوجه المطلوب منك، فالطريق إلى الله –سبحانه- لها ظاهر وباطن، وظاهرها الشريعة
وباطنها الحقيقة، وهما متلازمان(17) ، "فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة غير
مقبولة، وكل حقيقة غيـر مقيدة بالشريعة فغير مقبولة" (18).
لقد اهتم علماء
الأمة والعامة من ورائهم بالفقه الظاهر، فعقدت لذلك الندوات والمؤتمرات، وألفت فيه
الـكتب والمؤلفات وأنشئت الأقسام والكليات لدراسته والاهتمام بشأنه دون أن يلتفت
أولئك العلماء إلى الشق الآخر من الشريعة الذي يتجلى في فقه القلوب أو علم التصوف
وإلى أهميته ومكانته في الإسلام، ذلك العلم الذي يعنى بإصلاح الباطن وتحليته
بالفضائل، وتخليته من كل الرذائل، والذي في تطبيق منهجه تزكو النفس الإنسانية
وتطهر من الحقد والحسد والنفاق والعجب والـكبر والـكذب والخيانة وما إلى ذلك من
الأخلاق المرذولة التي كثيرا ما أفسدت على الناس
حياتهم، وتوارت في ظلمتها القاتمة وسائل الخير والصلاح(19)، أو كما يعر فه صاحب
الكتاب المهم (كشف الظنون) بقوله: "التصوف علم يعرف به كيفية ترقي أهل
الـكمال من النوع الإنساني في مدارج سعادتهم، ثم قال:
علم التصـوف
ليس يعرفـــه إلا أخــو فطنــة بالحق معـــــروف
وليس يعرفه من
ليس يشهده وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف"(20)
ويعرفه زكريا
الأنصاري (926هـ) بقوله: "التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفس وتصفية
الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية"(21) . وقد قدم لنا
الصوفية تعريفات للتصوف عديدة تجاوزت الألف تعريف على حد قول كل من عمـر
السهروردي(22) (632هـ) واليافعــي (23)(768هـ)،
وهذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس هناك تعريف جامع مانع للتصوف، ذلك أن تلك
التعريفات تعريفات ذاتية شخصية إلى أبعد حد، بمعنى أن كل صوفي عرف التصوف بحسب ما
جربه وما وجده في طريقه إلى الله ؛ لأجل هذا اختلفت تعريفات الصوفية للتصوف.
إن عدم
الاهتمام بالجانب الباطني من الشريعة الذي هو محط رحال علم التصوف ترتب عليه خلل
كبير يتجلى في تحول الدين إلى مجرد طقوس تؤدى، وشعائر تقام، دون أن يكون لها أثر
مجريات حياتهم اليومية، كما أصبح الدين بسبب ذلك في نظر في أخلاق الناس، أو انعكاس
على كثير من علمائه فضلاً عن غيرهم فتوى حكومية، أو جدلا لمباهاة والغلبة
والإفحام، أو سجعا مزخرفاً يتوسل به الواعظ إلى استدراج العوام لـكسب الشهرة
والمكانة الرفيعة بينهم؛ ليكون ذلك جسرا وطريقاً للحصول على مكاسب مادية أو فوائد وظيفية، وقد حذر
العلماء العاملون الصادقون الذين أقاموا التوازن بين ركني الشريعة في
نفوسهم من ذلك أشد التحذير، وفي هذا السياق قال السري السقطي (275هـ): "من
النذالة أن يأكل الإنسان بدينه"(24) ، وكان محمد يوسف الأصفهاني (184هـ) لا
يشتري زاده من خباز واحد، ولا من بقال واحد، وعندما سئل عن ذلك، قال: لعلهم
يعرفوني فيحابوني فأكون ممن يعيش بدينه"(25) ، كذلك الحال مع داود الطائي
(165)هـ، فقد قال يوما لمولاة له في الدار: أشتهي لبناً فخذي رغيفاً فأتي به
البقال فاشتري منه لبنا، ولا تعلمي البقال لمن هو، فذهبت فجاءت به، فأكل، وفطن
البقال بعد أنها تريد اللبن لداود فطيبه له ، فقال: علم البقال لمن تريدين اللبن؟
فقالت: نعم. قال: ارفعيه، فما عاد فيه(26) ، وسئل عبد الله بن
المبارك (181)هـ : "من الناس؟ قال: العلماء.
فقيل له: من الملوك؟ قال: الزهاد. قيل: فمن السفلة؟ قال: الذين يعيشون
بدينهم"'(27) ، بل بلغ الأمر عند أحدهم وهو عبد السلام بن مشيش (626)هـ أنه كان
يدعو الله بقوله : "اللهم إني أسألك اعوجاج الخلق علي حتى لا يكون ملجئي إلا
إليك"(28)
.
تلك النصوص
وغيرها من النصوص التي ذكرناها والتي لم تذكر تؤكد وتلخص نظرة العلماء العاملين
إلى خطورة مسألة الارتزاق بالدين المترتبة على عدم التكامل والتوازن بين الظاهر
والباطن أو بين الفقه والتصوف عند من يتخذ ذلك منهجا في تعامله مع الدين.
هذا الخلل الذي
حصل في الأمة جراء الانفصال بين شقي الشريعة في علاقتها مع الله ومع الإنسان ومع
النفس هو ما دعا الإمام الغزالي إلى تأليف كتابه (إحياء علوم الدين)، وكان المقصد
الأسمى من تأليف ذلك الكتاب يتلخص - كما عبر عبد الحليم محمود- في كلمة واحدة هي
الإخلاص(29) ، الذي هو من أعمال القلوب المهمة التي عليها مدار الأعمال الظاهرة من
حيث الرفض والقبول، فقد تلفت أبو حامد الغزالي يوما إلى نفسه فوجد أنه مجرد من
الإخلاص، وأن كل همه إنما هو الشهرة والصيت والجاه والمنزلة عند الناس وعند
الحكام، فمن ذلك عقد العزم على الخروج من بغداد إلى العزلة التي دامت إحدى عشرة سنة
التي راض فيها نفسه وجاهدها وهذبها، وتلفت أبو حامد بعد ذلك فيما حوله، فوجد أن
الناس صم بكم عمي عن قوله تعالى:{ألا لله الدين
الخالص}(30)، وعن قوله:{وما أمروا إ لا ليعبدوا الله
مخلصين له الدين}(31)، وعن قوله:{فادعوا الله مخلصين
له الدين} (32)
وغير ذلك من الآيات
وحــده الداعية إلى الإخلاص في الدين وإلى إخلاص الدين لله ، وبهذا ألف الغزالي
كتابه المذكور، ليستعيد الإخلاص إلى القلوب، وليستعيد ما درج عليه السلف الصالح من
اتخاذ الإخلاص أساس وشعارا، أي: ليستعيد ما كان
عليه أولئك من صلاح الباطن الذي هو أساسا لكل صلاح ظاهري، وبمعنى أدق أراد الغزالي
عبر كتابه استعادة التوازن بين الظاهر المتمثل فيما يجري على الجوارح من عبادات
وعادات، والباطن الذي يتعلق بالإخلاص وعلومه، وليتحقق ذلك فقد قسم الغزالي كتابه
الإحياء إلى أربعة أقسام: قسم العبادات، وقسم العادات، وقسم المهلكات، وقسم
المنجيات، ويرى الغزالي أن هذا الترتيب ضروري، فعلم المعاملة ينقسم إلى ظاهر وباطن. والظاهر هو العلم بأحوال الجوارح،
والباطن هو العلم بأعمال القلوب، وما يجري على الجوارح إما عادة أو عبادة، كما أن
الوارد على القلوب من أخلاق النفس فيه ما هو محمود وهو المنجيات، وما هو
مذموم وهو المهلكات، فكان المجموع بذلك أربعة أقسام (33).
وما دعا إليه
الغزالي من خلال كتابه هو في حقيقته امتداد لمشروع نهضوي نادى به قبله كبار
الصوفية؛ فقد أرشد إليه المحاسبي
(234) عبر
كتابيه (رسالة المسترشدين) و(الرعاية لحقوق الله عز
وجل)، والطوســي 378هـ) من خلال كتابه (اللمع)، وأبو طالب المكي(386) في كتابه
(قوت القلوب)، والسلمي عبر كتبه، والقشيري من خلال كتابه الرسالة، وغيرهم من
الأئمة الأعلام الذين حملوا على عاتقهم إبلاغ رسالتهم إلى العالم الإسلامي بضرورة
استعادة التوازن والتكامل بين الظاهر والباطن الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه
وسلم وصحابته الـكرام ومن سار على دربهم من التابعين ومن غيرهم، ذلك أن الإنسان
ليس بجسده أو بظاهره فقط بل عليها و يعامله على أساسها بباطنه وحقيقته المعنوية
التي يحاسبه الله ، حيث إنه لا ينظر إلى أيضا صوركم وأجسادكم بل ينظر إلى قلوبكم
وأعمالـكم(34) ، لـكن يبدو أن هذا التكامل وذلك التوازن بين المساقين الذي كان على
عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته بدأ يأخذ في التراجع في عهد التابعين، وقد
ظهرت بعض ملامحه لبعض الصحابة فنبه عليه، ومن أولئك الصحابي أبو الدرداء فقد حكى
ابن الجوزي أنه: "مر على رجل قد أصاب ذنبا ، فكانوا يسبونه. فقال: أرأيتم لو
وجدتموه في قليب ألم الذي عافاكم. قالوا تكونوا مستخرجيه. قالوا: بلى. قال: فلا
تسبوا أخاكم، و احمدوا الله الذي عافاكم. قالوا : أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض
عمله، فإذا تركه فهو أخي"(35) ، وحكى ابن الجوزي أيضا عنه أنه لما كان في
الشام: "دخل على زوجته يوما ً مغضبا فقالت: مالك؟ فقال : والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر
محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعاً "(36) .
فهذه تنبيهات
من أحد الصحابة إلى خطورة فقد التوازن ببن ظاهر الشريعة وباطنها، ففي النص الأول
إشارة إلى ضرورة النظر بعين الرحمة والشفقة إلى من يرتكب بعض الذنوب والأخذ بيده
إلى طريق السلامة بدل أن يشتم ويسب وينفر من الدين، وفي النص الثاني إشارة واضحة
من أبي الدرداء إلى تراجع أخلاقيات الإسلام الباطنة التي تقوم على الصدق والإخلاص
في الدين وحب الآخرة، فلم يبق في نظره من الدين إلا الطقوس الظاهرة التي منها
الصلاة جماعة، وقد أفزع هذا الأمر فيما بعد إمام أهل السلوك الحارث المحاسبي عندما
ازداد اتساع الهوة بين الظاهر والباطن، وانتشر الفساد وسوء الأخلاق والبعد عن
الآخرة، فقال: "إني تدبرت أحوالنا في عصرنا هذا، فأطلت فيه التفكير فرأيت
زماناً مستصعباً، قد تبدلت فيه شرائع الإيمان، وانتقضت فيه عرى الإسلام، وتغيرت
فيه معالم الدين، واندرست الحدود، وذهب الحق، وباء أهله، وعلا الباطل، وكثر
أتباعه، ورأيت فتناً متراكمة يحار فيها اللبيب، ورأيت هوى غالباً، وعدوا مستكلباً،
وأنفساً والهة، وعن التفكير محجوبة، قد جللها الرياء
فعميت عن الآخرة، فالضمائر والأحوال في دهرنا بخلاف
أحوال السلف وضمائرهم، ولقد بلغنا أن بعض الصحابة قال: لو أن رجلا من السلف الصالح
أنشر من قبره ثم نظر إلى قرائكم بأكملهم، لقال لسائر الناس:"ما يؤمن هؤلاء
بيوم الحساب، فإلى الله أشكو الذي حل بنا من التبديل والتغيير" (37) .
لقد حاولت جميع
الحركات الإسلامية المعاصرة أن تقدم مخرجا لهذه
الأمة من أزمتها الأخلاقية المتمثلة في كثير من
الأمراض الاجتماعية والنفسية التي حالت دون تقدم الأمة في هو ركن ركين في معالجة
مسارها الديني والدنيوي، ولـكن دون جدوى، ذلك أنها أهملت أمرا هذا التردي الأخلاقي
والانفلات السلوكي، يتمثل في عدم اهتمامها بالجانب الروحي والأخلاقي الذي تولى العناية به علم من العلوم المهمة في
الإسلام يتجلى في علم التصوف، لذا فإن تلك الحركات ظهر إفلاسها الفكري والمنهجي
وعدم قدرتها على تقديم الحل الناجع للأزمات التي تعانيها الأمة واضحا وجليا لكل
متابع ومتأمل، وما نعيشه اليوم من عنف وتطرف لفظي وسلوكي هو نتيجة حتمية لتلك
المنظومة الأخلاقية والتربوية التي قامت عليها بعض تلك الحركات الإسلامية المعاصرة،
فلو أن هذه الحركات اعتمدت التصوف الإسلامي منهجاً في تفسيراتها الإصلاحية لما كان
ما كان مما نشهده اليوم، ذلك أن التصوف الإسلامي يضم فلسفة تربوية أخلاقية رائعة
متميزة من غيرها من الفلسفات فهي ليست فلسفة نظرية فحسب، بل هي كذلك فلسفة عملية
تتجلى بوضوح في مدونة السلوك الصوفي القولي والفعلي، وهو سلوك سلمي يدعو إلى
المحبة والألفة والنظر إلى الناس بعين الرحمة، ومن ثم فهو سلوك تصالحي، وهذا
السلوك السلمي التصالحي إنما هو ثمرة جهد تربوي منهجي يقوم على مبادئ الشريعة
وقيمها ومقاصدها العليا التي تحولت إلى واقع ملموس عاشه أتباع المنهج الصوفي
الحقيقي(38)
.
نعم لقد تعرض
التصوف الإسلامي إلى تشويه فاضح وتحريف صارخ لم يتعرض إلى مثلهما أي علم آخر من
علوم الإسلام، وسبب ذلك - فيما أرى- هو سوء الفهم والوهم الذي وقع فيه من عالج
التصوف الإسلامي بالدرس والتحليل، أو من نسب نفسه إليه، وهو لا يمت إليه بأدنى
صلة، فترتب على ذلك ظلم وتعد كبيران عليه وعلى أهله ومحبيه وأتباعه وبخاصة من بعض
العوام الذين ألحقوا أنفسهم بالتصوف وهم لا يعرفون من التصوف إلا اسمه، أي: لا معرفة لهم بلوازم التصوف ومتطلباته، متخذين منه
سمة وحرفة وجسرا لقضاء مصالح دنيوية وأغراض شخصية، حتى صار التصوف ينظر إليه بوصفه
دروشة ورقصا وأكلاً وشرباً وشعارات زائفة وتقاليد منكرة، بعد أن كان علما
وعملاًومعرفة(39) . وقد أشار الحافظ محمد بن طاهر المقدسـي (507هـ) إلى أمثال
هؤلاء في زمانه عندما قال: "ولعمري إن المنكر وجد إلى الإنكارسبيلاً ، وأقام
عليه حجة ودليلاً ، عند ظهور هؤلاء الأحداث المتشبهين بالقوم(40) قولاً المباينين
لهم فعلاً الذين لم يتأدبوا بشيخ صحبوه، ولا فقهوا في علم درسوه، جعلوا هذه
الطريقة ذريعة إلى بلوغ أغراضهم ووسيلة إلى تحصيل أعمالهم" (41) .
إن التصوف الذي
ننشده وننشد رجوعه إلى حياة المسلمين ليقوم فيها التوازن والتكامل بين ظاهر
الشريعة وباطنها؛ حتى يتحقق لها الاستقرار والأمن النفسي والاجتماعي، ومن ثم تهنأ
في عيشها مستقرة آمنة، هو التصوف النقي من الشوائب البعيد عن الزيغ والشطط، هو
تصوف القائمين على حدوده المتمسكين بشريعته العلماء والنساك العارفين بالله أمثال
الحسن البصري، ومالك بن دينار، وإبراهيم بن أدهم، وداود الطائي، والفضيل بن عياض،
ومعروف الـكرخي، والمحاسبي، وذي النون المصري، والسري السقطي ، ويحيى بن معاذ
الرازي، وأبي سعيد الخراز، وأبي الحسين النوري، وأبي القاسم الجنيد ، والسلمي،
والقشيري، والغزالي، وعبد القادر الجيلاني، وعبد السلام بن مشيش، وأبي الحسن
الشاذلي، والزروق، وعبد السلام الأسمر الفيتوري، والحسن اليوسي، وغيرهم من أعلام
التصوف ممن أثْروا الحياة الروحية الإسلامية بمقالاتهم وسلوكهم ومنهجهم القويم (42).
وبفقد هذا
التصوف وصل المسلمون إلى درك كبير من الانحطاط والضعف الأخلاقي، لذلك همَّ العلماء
العاملون بنصح الناس بالالتزام بالتصوف الذي يمثل فقه الباطن المقام على الكتاب
والسنة؛ لـكي يحظوا برضا الله ، ويتذوقوا معاني الصفاء القلبي والسمو الخلقي،
ويتحقق لهم التوازن بين الظاهر والباطن ومن ثم تكاملهما، ذلك أن التصوف قد رسم
الطريق الحقيقي العلمي العملي الذي يصل بالمسلم إلى أعلى مقامات الـكمال الإيماني
والخلقي، فلم يقتصر منهجه على قراءة أوراد وحلقات أذكار فحسب، بل هو منهج علمي
وعملي يحقق تغير الإنسان إلى شخصية مسلمة متكاملة متزنة مثالية(43) ؛ لهذا قال
الغزالي بعد أن جرب التصوف وذاق ثمرته: "إنه أي: (التصوف) فرض عين، إذ لا
يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام" (44)، وقال محمد عبده وهو أحد رواد الإصلاح
الديني في العصر الحديث مؤكدا أهمية
التصوف ودوره المهم في حياة الدين وفاعليته في
استقامة السلوك الإنساني في طريقه إلى الله وفي التعامل مع الآخرين:"إنه
لم يوجد في أمة من الأمم من يضاهي الصوفية في علم الأخلاق وتربية النفوس، وإنه
بضعف هذه الطبقة فقدنا الدين"(45)
.
من هنا لا بد
من مراجعة المنظومات التربوية السائدة والمناداة بالرجوع إلى المنظومة التربوية
الصوفية لما تتمتع به من قيم المسامحة والمسالمة والمحبة والألفة مع الذات ومع
الآخر، ومع المجتمع، ومع العصر، وفي ذلك دعوة إلى استعادة التوازن والتكامل بين
الظاهر والباطن إلى قلوب الناس وجوارحهم بعد فراق طويل بينهما، عانت الأمة تحته ما
عانت من تمزق وتشتت وضياع واتباع للأهواء والانصياع للمصالح الذاتية التي أدت إلى
تفشي روح الـكراهية والأنانية وحب الذات وإقصاء الآخر وتزكية النفس ورؤيتها على
الآخرين وغيرها من الأخلاق المرذولة غير المقبولة، وهذا بدوره قاد إلى تنائي الطمأنينة
من نفوس الناس والإحساس الدائم بما يهدد أمنهم واستقرارهم النفسي والاجتماعي في
حياتهم اليومية. لذلك توصي هذه الورقة في محاولة لتقديم شيء مما يمكن أن يسهم في
تحقق الأمن المجتمعي بضرورة تدريس علم التصوف بوصفه علماً يهدف إلى إصلاح الباطن
وتطهيره من كل ما يعوق تقدم الإنسان وتألقه في سماء الأخلاق الفاضلة، وذلك في
المراحل الدراسية المختلفة جنباً إلى جنب علم الفقه الظاهر الذي يعنى بضبط
الجوارح، وتكلف لجنة علمية مختصة لوضع منهج علمي رصين متين في هذا العلم يختلف
منهجه باختلاف المراحل العمرية، كما تقوم تلك اللجنة بوضع برنامج لدورات تأهيلية
لمن سيقوم بتدريس هذه المادة؛ حتى يتم إعدادهم الإعداد الجيد الذي يحقق الهدف
المنشود والمقصود. وبذلك نطمح أن يخرج جيل متحل بالأخلاق السامية الراقية التي دعا
إليها الإسلام، جيل يحمل في أعماقه المحبة والعطف والرحمة بدل الـكراهية والضغائن
والأحقاد والتزمت والتطرف، وبهذا يسود الاستقرار، ويعم الأمن في المجتمع بأسره،
وقبل هذا وذاك فإننا ندعو إلى ضرورة تجديد هذا العلم والنظر في مسائله ووضعها في
الإطا الصحيح وإزالة الجفوة بينه وبين الفقه(46) ، فهما كما عبر الشيخ الزروق في
قوله الذي ذكرناه في ه مقدمة هذا البحث: "شقيقان في الدلالة على أحكام الله –
تعالى- وحقوقه، فلهما أصل الحكم الواحد، في الـكمال والنقص، إذ ليس أحدهما بأولى
من الآخر في مدلوله"(47) ، وبالتوازن بين العلمين وتعميقهما في نفوس الناس
علماً وعملاً يتحقق التوازن والتكامل بين الظاهر والباطن، وبذلك يكون المخرج -كما
ذكرنا- لهذه الأمة مما ابتليت به من تطرف وتزمت وأمراض اجتماعية ونفسية التي حالت
دون تقدم الأمة وعودتها إلى أمنها واستقرارها.
** ** **
* أستاذ مشارك بكلية الدعوة وأصول الدين، الجامعة
الأسمرية الإسلامية.
1 )انظر: الطوسي، اللمع.
2 )أي: طريقة التصوف
3)ابن خلدون، المقدمة.
4)ي قصد الصوفية.
5ابن خلدون، المقدمة،.
6)أحمد زروق، القواعد الصوفية، القاعدة .
7)لقد نسب الشيخ الزروق هذه العبارة إلى الإمام
مالك، انظر: كتابه قواعد التصوف، القاعدة .
8)محمد الـكحلاوي، الفكر الصوفي في أفريقية والغرب
الإسلامي ،نقلا ً عن رسائل اليوسي.
9)انظر: حسن الشافعي، أصول التصوف.
10)القشيري، الرسالة القشيرية.
11)السلمي، طبقات الصوفية.
12)القشيري، الرسالة القشيرية،.
13)السلمي، طبقات الصوفية
14)الحكيم الترمذي، بيان الفرق بين
الصدر والقلب والفؤاد واللب.
15)أبو طالب المكي، قوت القلوب.
16)السابق.
17)انظر: عز الدين بن عبد السلام، زبدة
خلاصة التصوف.
18)القشيري، الرسالة القشيرية.
19)انظر: محمود شلتوت، الإسلام عقيدة
وشريعة.
20)الحاجي خليفة، كشف الظنون عن أسامي
الـكتب والفنون.
21)يوسف خطار محمد، الموسوعة اليوسفية.
22)انظر: السهروردي، عوارف
المعارف ملحق بإحياء علوم الدين
23)انظر: اليافعي، نشر المحاسن الغالية.
24)ابن الجوزي، صفة الصفوة.
25)انظر: ابن الجوزي، صفة الصفو.هكذا
ورد الفعلان: "يعرفوني فيحابوني" بحذف نون الرفع".
26)انظر: السابق
27)انظر: السابق.
28)علال الفاسي، التصوف الإسلامي في
المغرب.
29)انظر: عبد الحليم محمود، قضية
التصوف: المنقذ من الضلال.
32)سورة غافر، الآية:13
33)انظر: الغزالي، إحياء علوم الدين.
34)انظر: أحمد إسماعيل، مقدمته لكتاب
الشريعة والحقيقة بين التصوف والرمز، لقطب الدين العبادي، ص: 111.
35)ابن الجوزي، صفة الصفوة.
36)السابق.
37)المحاسبي، الوصايا، ص: 3
38)انظر: محمد حفيان، المنظومة
الأخلاقية الصوفية، ملخصات بحوث المؤتمر الدولي الثامن عشر لقسم الفلسفة الإسلامية
بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة.
39)انظر: كاتب هذا البحث، التصوف
الإسلامي السني بين الوهم وسوء الفهم، في: مجلة الجامعة الأسمرية، العدد 22.
40)يقصد الصوفية.
41)المقدسي، صفوة التصوف.
42)انظر: حسنين مخلوف، مقدمته لرسالة
المسترشدين للمحاسبي.
43)انظر: يوسف خطار محمد، الموسوعة
اليوسفية.
44)أحمد بن عجيبة، إيقاظ الهمم في شرح
الحكم.
45)محمد عبده، الأعمال الكاملة.
46) انظر عبد الله بن بيه، التأصيل
الشرعي للتصوف، الموقع الرسمي لعبد الله بن بيه شبكة المعلومات الدولية.
47)أحمد زروق، القواعد الصوفية، القاعدة
20.