آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الخطاب الرّوحي في الأدب الصوفي -16

وقد أشار الباحث في مقدمته إلى أن سر قوة الفكر الصوفي لابن العربي يكمن في رمزيته وفي مجالات التأويل الرحبة التي فتحها على العقل وعلى القلب الإنساني ومكنها من الغوص في غياهب المطلق لأجل الترقي نحو نور الكمال، ثم مجال تأويل رمزيته في حد ذاتها، مما يتيح لكل صاحب خيال أن يقرأ فكره من الزاوية التي يشعر بحسن التعمق فيها، فقد يقول ما قاله ابن العربيوصرح به وقد يقول ما لمّح إليه، وقد يقول ما أراد قوله هو من خلل تأويل رمزية النص. لهذا فقد تعدى تواجد نصه إلى مجالات معرفية وفنية، في الفلسفة، في الرواية والقصة والشعر، في الموسيقى، وفي الرسم ...ناهيك عن حضوره القوي في المجال الديني لأنه مجاله الحيوي الأول، الذي تؤول إليه كل رمزية، ولأن التصوف في نهاية المطاف ما هو إلا محور هام من محاور الفكر الإسلامي الحادثة في الملة خدمة للحقيقة الدينية.(1)

الحقيقة هي إشارات ومضية في شأن هذا الحقل المعرفي الصوفي الهذي استطاع أن يمتاز برصيد معرفي ومنهجي وإجرائي لا يستهان به، وما دليل الدراسات التي قامت ولا تزال في شأن هذا الحقل المعرفي لدليل قاطع على شمولية هذا النوع من الخطاب الصوفي في كثير من الأسيقة الفكرية والفلسفية والاجتماعية والنفسية واللغوية وهلم جرا.

ولعل من باب الإنصاف أن نشير إلى قضية هي من باب الإقرار والاعتراف سواء ما يتماشى مع طبيعة الإشكال في هذه الرسالة، أو ما أقرت به غالبية المصنفات الصوفية، وهو حديث موجز عن سيرة ما لقب به بالشيخ الأكبر، محي الدين ابن عربي، إذ لا يعقل أن تكون الدراسة عليه شكل ومضمونا دون أن نفرد له وقفة ولو وجيزة حول حياته وأهم ما امتاز به من زاد معرفي.

سيرة محي الدّين بن عربي


في هذه الترجمة المختصرة لسيرة محيي الدين بن عربي سنولي اهتماما أكثر بمحيط نشأته الأندلس والمغرب ومرحلة تكوينه فيهما على يد مشايخه، لأنّهما الحجر الأساس في تكوين شخصيته التي خلفت أعمال وأفكار أثارت معجبيه وناقديه

اسمه ونسبه


ابن عربي: بلا ألف ولام أو بهما(2) هو أبو بكر، (وقيل: أبو عبد الله(3)، وقيل أنه كني بأبي محمد (4) محمد بن علي الملقب: بمحيي الدين، وبالشيخ الأكبر. أندلسي المولد والنشأة، عربي الأصل ينتسب إلى حاتم الطائي من ولده عبد الله بن حاتم، وليس من الصحابي عدي بن حاتم(5)، ولقد ذكر المقري في نفح الطيب أنّهم استقر أسلافه في جنوب مرسية هناك حيث ولد صاحب الترجمة.(6) يعرف أيضا بالكبريت الأحمر. وأضاف الإمام الذهبي بأنه عرف أيضا بالقشيري لتصوفه(7)، ووصفه الداوودي في طبقاته بالصوفي الفقيه الظاهري، المحدث(8)، وزاد كحالة أنه مفسر أديب، شاعر، مشارك في علوم اخرى(9)، فهو واحد من كبار المتصوفة والفلسفة المسلمين على مرِّ العصور.

مولده ونشأته وتكوينه


ولد بّرسية(10) في الأندلس ليلة الاثنين 17من شهر رمضان الكريم عام 560ه الموافق 1165 م(11)، من أب مرسي وأم أمازيغية كان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف. وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها. أخذ بمرسية عن أشياخها، ومنهم ابن بشكوال، فقد كان يقيم بها يومئذ (12). تعلم القرآن على يد أبي عبد الله الخياط الذي قال عنه بن عربي: «كنت أتعشق به وأنا صغير عند الذي كنت أقرأ عليه القرآن، وكان جارا لنا .[..] وآخيته لما رجعت إلى هذه الطريقة»(13). 

كانت بلد الأندلس وقتها تحت حكم الموحدين الذين أسسوا دولة مترامية الأطراف عاصمتها مراكش. وقد عاصر ابن عربي ثلثة من خلفاء هذه الدولة هم: يوسف بن عبد المؤمن، ويعقوب المنصور، ومحمد الناصر.

كان الأندلس يغلي بالصراعات السياسية ضد القوى الأوروبية الآتية من الشمال مهّددة الوجود العربي في الأندلس. وفي الوقت نفسه كان الأندلس ساحة للحركات الفكرية العميقة المستنيرة، وللحوار الفكري بين التيارات المختلفة، وكان خلفاء الموحدين، وبخاصة يعقوب المنصور، على قدر وافر من التسامح وسعة الأفق، ورحابة الثقافة. وقد عرف البلاط الموحدي أعلاماً كباراً في الفكر من أمثال ابن طفيل وابن رشد وابن زهر وسواهم. وقد شِهد ابن عربي جثمان ابن رشد محمولاً على بعير ومعه حمل من كتبه.

وما أن بلغ بن العربي سن الثامنة حتى انتقل مع أسرته إلى إشبيلية فتابع ودرس هنالك القرآن والحديث والفقه، وسمع من أبي بكر محمد بن خلف بن صاف اللخمي (ت1083/585)وقرأ عليه القرآن الكريم بالقراءات السبع، وكتاب «الكافي» لأبي عبد الله محمد بن شريح الرعيني (ت1142/537)المقرئ في مذاهب القراء السبعة المشهورين، وحدثه به عن ابن المؤلف أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني عن أبيه. ودرس في نفس الوقت الحديث والسيرة النبوية عند المحدث عبد الرحمن السهيلي (ت 1185/581) بمراكش (14)،والذي لقنه جميع مؤلفاته ولا سيما كتابه الرّوض الآنف، شرح لسيرة ابن هشام الأنصاري. ومن جهة أخرى تابع دروس القاضي ابن زرقون (ت1190/586)الذي سمع عنه كتاب التقصي ليوسف الشاطبي (ت 1071/463). كما أنه تردد في هذه الفترة على عبد الحق الأزدي الإشبيلي (ت1185/581)صاحب الأحكام الكبرى والوسطى والصغرى، الهذي نقل لا بن العربي أعمال
ابن حزم الظهاهري.كما أنه كانت تربط عبد الحق الإشبيلي علاقات وطيدة بالشيخ أبي مدين(ت1197/594)(15). 

وزاد الداودي أنهه سمع على قاضي مدينة "فاس" أبي محمد عبد الله التادلي كتاب التبصرة في مذاهب القراء السبعة، لأبي محمد مكي بن أبي طالب المقرئ عن أبي بحر سفيان عن المؤلف.

وسمع على القاضي أبي بكر محمد بن أحمد بن أبي جمرة كتاب التيسير في مذاهب القراء السبعة لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني عن أبيه عن المؤلف، وسمع على القاضي أبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون الأنصاري، وعلى أبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي، وعلى عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن الحرستاني. وعلى يونس بن أبي الحسن العباسي نزيل مكة، وعلى المكي بن شجاع زاهر بن رستم الأصبهاني إمام المقام، وعلي بن البرهان نصر بن أبي الفتوح بن علي وسالم ابن رز الله الأفريقي، ومحمد بن أبي الوليد بن أحمد بن شبل، وأبي عبد الله ابن عيشون. وأجازه جماعة كثيرة منهم الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر، وأبو الطهاهر السلفي، وأبو الفرج بن الجوزي.(16)

وذكر صاحب الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة أنه سمع أيضا من ابن صاف وأبي الوليد جابِر بن أيُّوب، وبسْبتة من ابن عُبيد الله، وسمع أيضا من ابن أبي جَمْرة، وعبد المُنعم ابن الفرس، وابن مضاء، واختص بنَجَبةَ كثيرا، وذكر أنه لقِي عبد الحق ابن الخرّاط، وأن السلفي أجاز له؛ أخذ عنه أبو بكر بن مُسْدي. (17)

** ** **

1- أنظر ساعد خميسي: الرمزية والتأويل في فلسفة بن العربي، أطروحة دكتوراه، جامعة قسنطينة، 2005ص03 .
2- أشار محمد عبد الله عنان إلى أنه يعرف بابن عربي تمييزاً له من العلمة أبي بكر بن العربي، أنظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، ،1990ط ،2ج ،2ص .679.
3- محمد أبو الطيب المكي الحسني الفاسي (ت 832ه :) ذيل التقييد في رواة السنن والأسانيد، تحقيق: يوسف الحوت، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ج 1ص 184.
4- محمد عبد الله عنان: المرجع نفسه.
5- شمس الدين الداوودي: طبقات المفسرين للداوودي، دار الكتب العلمية – بيروت، ط ،1ج 1ص .204.
6- المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس، دار الفكر، ،1980ط ،1ج ،6ص 163.
7- شمس الدين الذهبي: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق: عمر عبد السلم التدمري، بيروت، دار الكتاب العربي، ،1993ج 46 ، ص374.
8- شمس الدين الداوودي المرجع السابق.
9- عمر بن رضا كحالة: معجم المؤلفي، مكتبة المثنى - بيروت، دار إحياء التراث العربي بيروت.
10- مدينة مرسية تقع بجنوب شر إسبانيا حاليا، وقد قال بن العربي بأنه ولد في مرسية في دولة السلطان أبي عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش بالأندلس، أنظر محيي الدين بن العربي: محاضرة الأبرار، ج 1ص 48.11- فقد ذكر ذلك بن عربي للمؤرخ بن النجار (ت. )1245/643عندما التقى به في دمشق. أنظر نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،ج2 ص126.
12- أنظر محمد عنان المرجع السابق. وانظر أيضا: محمد بن شاكر (ت 764)فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس، دار صادر – بيروت،1974ج ،3ص .4351في حي ذكر الداوودي أنه سمع منه في قرطبة، أنظر طبقات المفسرين للداوودي، المرجع السابق.
13- أنظر: ابن عربي: روح القدس في محاسبة النفس، دمشق، بدون تاريخ، رقم 9 ،10ص .93والمؤلف نفسه: محاضرة الأبرار، ومسامرة الأخيار، القاهرة، ،1906ج 2ص31.
14- أنظر ابن فرحون: الديباج المذهب، بيروت، بدون تاريخ، د.ط، ص150.
15- حول هذه العلقات أنظر: ابن عربي: رسالات، في ألف، ص 26.
16- الداودي: طبقات المفسرين، المصدر السابق، ج 2ص 204.
17- أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الملك الأنصاري الأوسي المراكشي (ت703)الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإسلمي، تونس، ،2012ط 1،ج 4ص554 . 

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية