آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الخطاب الرّوحي في الأدب الصوفي -17

التكوين الصوفي لابن عربي


بدأ تعلق صاحب الترجمة بالعالم الروحاني منذ نعومة أظفاره فضل عن تذوقه لمعاني القرآن كما أسلفنا سابقا، فاتصاله الروحي تعكسه لنا قصة مرضه التي يرويها لنا هنري كوربان مستمدًّا إيّاها من السيرة الذاتية لابن العربي نفسه، فيذكر عن مرضه هذا ما يلي:«في هذه الفترة بالضبط بدَت على ابن عربي علامات القدرة الاستشراقيّة. وقد ألمَّ به المرض وأدخلته الحمى في حالة سبات وفتور عميقين. وخاله أهله ميتاً، فيما كان هو في عالمِه الباطني يرى نفسه محاطاً بمجموعة من الشخصيات الخطيرة ذات المظهر الجهنمي. لكن، ظهر فجأة شخص ذو جمال رباني مضمخ بعطر عذب الرائحة فقهر بقوته الجبارة الكائنات الشيطانية. فسأله: من أنت؟، فأجاب: أنا سورة (يس). والحقيقة أن أباه المسكين القلق على حياة ابنه كان يتلو تلك السورة بتلوة خاصة بمن أتتهم سكرات الموت....»(1). ويعلق كوربان «أن ذلك كان أول دخول لابن عربي في عالم المثال، أي عالم الصور الواقعية والباقية: عالم الحساسية المعقولة».(2)

يروي لنا ابن عربي نفسه بأن امرأتين صالحتين من مشايخ التصوف كان لهما تأثير في طفولته، الأولى كانت ياسمين من مرشينة بإشبيلية، والثانية فاطمة ابنة المثنى القرطبي. وقد كانت هذه الأخيرة بمثابة الأم الروحية، فقد كان ابن عربي من بين مريديها لمدة عامين، كما روى كراماتها.(3) وغالباً ماكانت الشيخة الصالحة تقول للمريد الشاب: «أنا أمك الإلهية ونور أمك الترابية». وفعلاً، كما يحكي ابن عربي: «إذا جاءت والدتي إلى زيارتها تقول لها يا نور هذا ولدي وهو أبوك فبريه ولا تعقيه». وكما يردف كوربان أن هذا هو الوصف نفسه، أي «أم أبيها» هو الوصف الذي أطلقه النبي الكريم على ابنته فاطمة الزهراء. ويتابع كوربان: «ولكي تكون الشيخة الصالحة، التي تحمل اسم بنت النبي الكريم، قد سلمت بهذه الطريقة على أم ابن عربي، فذلك يعني أنه كان لها حدس قوي بالمصير الاستثنائي الذي ينتظر المريد الشاب». 

كما يذكر أسين بالاثيوس أن زوجته الأولى في إشبيلية التي يتحدث عنها مترجمنا باحترام وتفان أثرت في توجهه إلى التصوف.(5) وعنها يذكر لنا كلود عداس أن ابن العربي تزوج فعلاً بأكثر من امرأتين على الأقل. الأولى هي مريم بنت محمد بن عبدون البجائي التي كان قد تزوج بها، ربّما في إشبيلية والتي تلتقي طريقتها الإلهية بطريقته.(6)

وزوجة الشيخ الثانية هي فاطمة بنت يونس بنت يوسف أمير الحرمي التي أنجبت له ولده محمدا عماد الدين (ت. 667ه) كما يبدوا أن للشيخ ولدا ثانيا من امرأة أخرى اسمه محمد سعد الدين (ت 656ه) ولد في ملطية عام (618ه) قد تكون أمه أم تلميذه القنوي التي صارت بحسب بعض المصادر زوجة ابن عربي في الأناضول.(7) كما يضيف المقهري أنه لما استقر بسورية تزوج ببنت القاضي المالكي بدمشق (8) (زين الدين عبد السلام الزواوي ت.681)(9).

كما تحدث ابن العربي عن لقائِه بالفيلسوف بن رشد في صباه حيث يقول: دخلت يوما بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمعه وبلغه ما فتح الله علي في خلوتي... وأنا صبي ما بقل وجهي ولا طر شاربي. فعندما دخلت عليه قام من مكانه إلى محبة وإعظاما، فعانقني وقال لي نعم. قلت نعم. فزاد فرحه بي لفهي عنه، ثم إني استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت له لا، فانقبض وتغير لونه وشك فيها عنده وقال: كيف وجدت الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت له: نعم لا، وبي نعم ولا تطير الأرواح منة موادها، والأعناق من أجسادها.(10)

ربّما يكون أبو العباس العريبي، بعد أبي مدين هو الذي كان أكثر تأثير في التعلق السلوكي لابن العربي والذي يشير إليه بن العربي على الأكثر من بين شيوخه في الفتوحات.(11)

كما ذكر بن عربي أنه أخذ وعاشر أربعة شيوخ روحانيين بإشبيلية كالشيخ أبي يحي الصنهاجي الضرير، وصالح البربري، وأبي عبد الله الشرفي، وأبي الحجاج يوسف الشربلي، ووصفهم بأكابر أولياء الملاميّة.(12)

كما صرح ابن عربي تتلمذ على يد الكومي قائل: «وهذا مذهب شيخنا أبي يعقوب يوسف بن يخلف الكومي. وما راضني أحد من مشايخي سواه، فانتفعت به في الرياضة وانتفع بنا في مواجيده، فكان لي تلميذا وأستاذا وكنت له مثل ذلك.... وذلك سنة ست وثمانين وخمسمائة، فإنه كان قد تقدم فتحي على رياضتي».(13)

**   **   **
1-هنري كوربان: الخيال الخلاق في تصوف بن عربي، ترجمة فريد الزاهي، منشورات مرسم، 2006، ط1 ،ص 43.
2 - المرجع نفسه: ص 44.
3- ابن عربي: الفتوحات المكية، ط القاهرة، 1329ه، ج ،2ص 348.
4- هنري كوربان: الخيال الخلاق، المرجع السابق، ص44.انظر أيضا الفتوحات المكية، المصدر السابق، ج 2ص 348.
5- ميغال أسي بلسيوس: الإسلام المتمسح، دراسة في التصوف من خلال أعمال بن العربي المرسي، مدريد، 1931،ص 39.
6-كلود عداس: ابن عربي سيرته وفكره، ترجمة أحمد الصادقي، دار المدار الإسلامي، بيروت، ط1 ،2014 ،ص 147.
7- المرجع نفسه، ص .126
8- المقري: نفح الطيب، المصدر السابق، ج 2ص 179.
9- أنظر أبو شامة: تراجم، بيروت، 1974ط 1،ص235-236 .
10- ابن العربي: الفتوحات المكية، المصدر السابق، ج 1
11- المرجع نفسه.
12- ابن عربي: الفتوحات، المصدر السابق، ج 1ص206.
13- ابن عربي: الفتوحات المكية،مرجع سابق، ج 1،ص616.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية