وأخرج المروذبي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا تتركِ الصَّلاةَ مُتعمِّدًا فَمَ تَركَهَا مُتعمِّدًا فَقَدْ خَرَجَ مِنَ المِلَّة) وفي حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ) أخرجه بطوله في زاوية البزار. قال ابن رجب رضي الله عنه : "فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لايقوم الفسطاط إلا به، ولو سقط العمود لسقط الفسطاط". وقال رحمه الله في حديث معاذ رضي الله عنه : رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وذِروةُ سَنامِهِ على شيء فيه ولكنه ليس من دعائمه وأركانه التي بُني عليها، وذلك لوجهين، أحدهما : أن الجهاد فرض كفاية عند جمور العلماء ليس بفرض عين، بخلاف هذه الأركان. والثاني : أن الجهاد لا يستمر فعله إلى آخر الدهر، بل إذا أُنزل عيسى عليه السلام ولم يبق حينئذ ملة غير ملة الإسلام فتضع الحرب أوزارها، ويستغنى عن الجهاد، بخلاف هذه الأركان فإنها واجبة على المؤمنين إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك، والله سبحانه أعلم. انتهى.
فإذا كان الجهاد والصلاة فغيره بالأولى وهذا معلوم بالضرورة ولا يظن النزاع فيه من أحد، وإنما هذه الأدلة على فرض نزاعكم في ذلك وأنه الهادي.
فإذا ثبت ذلك فهل الشرك في هذا الأعلى مُخرج عن الإسلام أو غير مُخرج عنه ؟ إن قلتم مخرج عن الإسلام فباطل، بما أخرجه في زوائد البزار قال : حدثني أبو صالح قال : كان عبد الرحمن بن غنم في مسجد دمشق في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال عبد الرحمن : يا أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، فقال معاذ : اللهم اغفر، فقال : يا معاذ أما سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مَنْ صَامَ رِياءً فقَدْ أَشْرَكَ وَمَن تَصَدَّقَ رِياءً فقَدْ أَشْرَكَ وَمنْ صَلَّى رِيَاءً فقَدْ أَشْرَكَ، ؟ قال : بلى ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلى هذه الآية : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا...} الآية، فشقَّ ذلك على القوم واشتدَّ عليهم فقال : ألا أفرجها عنكم ؟ قالوا : بلى، فرَّج الله عنك الهمّ والأذى، فقال : هي مثل الآية التي في الروم : {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} من عمل عمل رياء لم يكتب له ولا عليه. وتقدم حديث شداد بن أوس : (أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية).
قال الشيخ ابن رجب في شرح قوله صلى الله عليه وسلم : (فَمن كَانت هِجرتُهُ إلى اللهِ ورَسُولِهِ...) الحديث، لما ذكر صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بحسب النية، وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر، وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كلِّيتان لا يخرج عنهما شيء.
ذكر بعد ذلك مثالا من أمثال الأعمال التي صورتها واحدة ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات وكأنه يقول سائر الأعمال على حذو هذا المثال. انتهى.
وقال رحمه الله : واعلم أن العمل لغير الله تعالى أقسام، فتارة يكون رياءً محضاً، بحيث لا يُرادُ به سوى مراءاة المخلوقين لعز دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم، قال تعالى : {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}[سورة النساء - الآية 142] وقال تعالى : {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}[الماعون -الآية 5] وكذلك وصف الله الكفار بالريّاء في قوله : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}[الأنفال -الآية47]. وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرها من الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعها فإن الإخلاص فيها عزيز.
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، ثم إن الشيخ رحمه الله قسم هذا النوع قسمين : قسم شاركه الرياء من أصله، وقسم كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء، وليس هذا مرادنا هنا إنما المقصود أن الشرك الأصغر في الأعمال غير مخرج عن الإسلام، وقال يوسف بن حسين الرازي : (أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي وكأنه ينبت فيه على لون آخر) انتهى.