آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم -48

فتحصّل : أن الأشياء كلها قائمة بالله، أثبتها ليُعرف بها، ثم محاها بوحدانيته كما أشار إلى ذلك بقوله :

(الأَكْوَانُ ثَابِتَةٌ بِإِثْبَاتِهِ وَمَمْحُوَّةٌ بِأَحَدِيَّةِ ذَاتِهِ)


الأكوان : هي ما ظهر في عالم الشهادة ، أو تقول ما دخل عالم التكوين ، وهي موجودة بوجود الحق قائمة به ثابتة بإثباته ، ليعرف بها ، ممحوة بأحدية ذاته لانفراد وجوده ، فمن أثبتها لنفسها فقد جهله فيها وحجب بها عن شهود موجدها ، ومن أثبتها بالله فقد عرف فيها وشهد فيها مولاها ، فالثبوت للأكوان أمر عرضي ، والحق اللازم هو وجود أحدية الحق تعالى ، والأحدية مبالغة في الوحدة ولا تتحقق إلا إذا كانت الوحدة بحيث لا يتمكن أن يكون أشد وأكمل منها ، فمن مقتضى حقيقتها محو الأكوان وبطلانها بحيث لا توجد ، إذ لو وجدت لم تكن أحدية ولكان في ذلك متعدداً وأثنينية كما قيل :

أربٌ وعبد ونفيُ ضدّ ... قلتُ له ليسَ ذاك عندي
فقال ما عندكم فقلنا ... وجودُ فقدٍ وفقدُ وَجْدِ
توحيدُ حقٍّ بتركِ حقٍّ ... وليسَ حقٌّ سواي وحدي

ومعنى كلام الشاعر : الإنكار على من أثبت الفرق بان جعل للعبودية محلاً مستقلاً منفصلاً عن أسرار معاني الربوبية قائماً بنفسه ، ولا شك أن العبودية تضاد أوصاف الربوبية على هذا الفرق وأنت تقول في توحيد الحق لا ضد له ، فقد نقضت 
كلامك ، ولذلك قال ونفى ضد ، فالواو بمعنى مع . وهو داخل في الإنكار أي أيوجد رب وعبد ستقل مع نفي الضد للربوبية والعبودية تضاد أوصاف الروبوبية ، والحق أن الحق تعالى تجلى بمظاهر لجمع في قوالب الفرق وظهر بعظمة الربوبية في إظهار قوالب العبودية ، فلا شئ معه .
وقوله في الجواب : وجود فقد : أي عندنا وجود فقد السوى وفقد وجود النفس .

وقوله توحيد حق بترك حق : أي توحيد حق الحق بترك حق الغير ولا غير ، ولذلك قال وليس حق موجود سوى وجودي وحدى ، تكلم على لسان الفناء والله تعالى أعلم .

هذا آخر الباب الرابع عشر وحاصلها : تحويش العباد إلى الله وتحبيبه إليهم ، بذكر ما اشتمل عليه الحق سبحانه من الكرم والإحسان ، وغاية اللطف والمبرة والامتنان ، وذلك أن سبحانه منّ علينا أولا بالطاعة والعمل وتفضل علينا ثانياً بالقبول مع ما اشتمل عليه علمنا من النقص والخلل ، ثم إذا وقعت منا معصية أو زلل عطانا بستره وبمغفرته لنا تفضلاً ، وإذا توجهنا إليه بقلوبنا سترنا منها وعصمنا ليعظم قدرنا ، ويظهر شكرنا ، فنتخذه صاحباً ، وندع جانباً ، فحينئذ تشرق في قلوبنا أنوار اليقين ، ونرحل إلى الآخرة في أقرب حين ثم تشرق علينا أنوار الإحسان، فتنطوى لنا رؤية الأكوان ، بشهود نور الملك الديان ، فحينئذ ينشر محاسننا للعباد ، فيقبلون علينا بالثناء والمحبة والوداد.كما أبان هذا بقوله في أول الباب الخامس عشر وقال رضي الله عنه : 

(النَّاسُ يَمْدحُونكَ لِمَا يَظُنُّونَ فِيكَ فَكُنْ أَنْتَ ذامًّا لِنَفْسِكَ لِمَا تَعْلَمُهُ مِنْهَا)


قلت : إذا مدحك الناس بشئ ليس هو موجود فيك، فاعلم أن ذلك هواتف من الحق يهتفون بك ويحوشونك إلى الزيادة، ويقولون لك الخير أمامك فلا تقنع بذلك ولا تركن إلى ما هنالك، بل ارجع إلى نفسك باللوم ولا يغرنك ثناء القوم، فإنهم لا يعلمون منك إلا الصوان الظاهر، وأنت تعلم من نفسك اللبّ الباطن.

قال بعضهم : "من فرح بمدح الناس فقد مكَّنَ الشيطان أن يدخل بطنه". وكان بعضهم يقول : "اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لنا ما لا يعلمون". وإنما قلنا : "مدائح الناس هواتف الحق" إذ ليس في الوجود إلا الحق {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} فأهل الفهم عن الله يستمعون إلى الخطاب، فإذا سمعوه مدحهم بشيء نظروا، فإذا كان فيهم علموا أنه تنبيه لهم على مقام الشكر، وإن لم يجدوه فيهم علموا أنه تنبيه لهم على تحصيل ذلك المقام، ولهذا لما سمع أبو حنيفة قوماً يمدحونه بقيام الليل كله وكان لا يقوم إلا نصفه جعل يقوم الليل كله. وقد ذم الله قوماً أحبوا أن يمدحوا بما لم يفعلوا فقال :{وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران :188].

وقال المحاسبي رضي الله عنه : "مثل الذي يفرح بمدح الباطل كمن يقال له : العذرة التي تخرج من جوفك لها رائحة المسك وهو يفرح بذلك ويرضى بالسخرية به". 

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية