(إِذَا
أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْراً آنَسَهُ بِذِكْرِهِ وَوَفَّقَهُ لِشُكْرِهِ)
والله ما طلعت
شمسٌ ولا غربت إلا و حبّـك مقـرون بأنفاسـي
ولا جلستُ إلى
قوم أحدّثهــم إلا وكنتَ حديثي بين
جلاســي
ولا هممت بشرب
الماء من عطش إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكـــأس
ولو قدرتُ على
الإتيان جئتـُكم سعياً على الوجه أو مشياً على الرأس
ولا شربتُ زلال
الماء من ظمإ إلا شهدت خيالا منك في الكأس
جمالك في عيني
وذكرك في فهمي وحبك في قلبي فأين تغيب
فهذه حالة من
أخذه الاسم إلى مسماه، فاشتغل أيها المريد باسم الله وافن فيه حياتك العزيزة، فإنه
والله عزيز ولا فوقه عزيز إلا ما هو نتيجته وهى المعرفة . يقول الله عز وجل في بعض
الأحاديث القدسية : (ما أعظم من ذكري إلا معرفتي). ومعرفة الله لا تنشأ إلا عن
استغراق في الاسم الأعظم. ومن لم يترنَّم بذكر الله، ويستغرق في معناه، فليس له
حظٌّ في محبة الله، لقوله عليه الصلاة والسلام : (مَن لم يهتز بذكر الحبيب فليس
بحبيب).
يروى في الخبر
أن المفردون، هم المهتزون بذكر الله يضع الذكر أثقالهم، رجال فنوا في ذكره حتى صار
لسانهم يذكر بغير استعمال، وقلبهم شاكر في سائر الأحوال، والجسد ممتثل على خير
الأعمال.
وعن عثمان بن
مرزوق رضي الله عنه قال : سمعت والدي يقول : خرجت مرة سائحاً في جبل المقطم بقرافة
مصر فمكثت أياماً لا أرى أحداً، فسمعت ليلة عند السحور قائلاً يقول في مناجاته
بصوت يزعج القلوب، وحنين يذهب العقول : كتمت بلائي عن غيرك ، وبحت بسري إليك ،
واشتغلت بك عما سواك . ثم انتحب باكيا وقال : عجبت لمن عرفك كيف يسلو عنك ، ولمن
ذاق حبك كيف يصبر عنك، يا آمال العارفين وحبيب المقربين، وأنيس المحبين وغاية آمال
الطالبين، ومعين المنقطعين. ثم صاح : واشوقاه واكرباه. فتبعت الصوت وقد أخذ بمجامع
قلبي حتى انتهيت إليه، فإذا هو شيخ نحيف البدن، أصفر اللون تعلوه هيبة، وعليه سمة
أهل المعرفة. فدنوت منه وسلمت عليه، فقال: مرحباً بك يا عمر. فقلت له : وكيف عرفت
اسمى وما رأيتنى قبل هذه الساعة؟ فقال : نظرت شخصك في الأرض، فعرفت مقامك في
السماء، وقرأت اسمك في اللوح المحفوظ. فقلت له: يا سيدي فدني فائدة. فقال : يا
عمر، أوحى الله عز وجل لداود عليه السلام: (يا داود قل لأوليائي وأحبائي يفارق كل
منهما صاحبه، فإني مؤنسهم بذكري ومحدثهم بأنسي، وأكشف الحجاب فيما بيني وبينهم
لينظروا عظمة وجودي وبهاء وجهي، في كل يوم أدنيهم وفي كل ساعة أقربهم من نور وجهي،
وأذيقهم من طعام كرامتي.فإذا فعلت ذلك بهم عميت نفوسهم عن الدنيا وأهلها، فما شيء
آنس إليهم مني ولا أقر لعيونهم من النظر إلي، يستعجلون القدوم علي وأنا أكره أن
أميتهم، لأنهم موضع نظري، من بين خلقي، أنظر إليهم وينظرون إليّ، فلو ريتهم وقد
ذابت نفوسهم ونحلت أجسامهم، وخشعت عيونهم وتهشمت أعضاؤهم، وانخلعت قلوبهم إذا
سمعوا ذكري، أباهي بهم ملائكتيوأهل السموات، ينظرون إلي فيزدادون خوفا وعبادة ، إن
ناجونى أصغيت إليهم ، وإن نادونى أقبلت عليهم ، وإن أقبلوا إلىّ أدنيتهم ، وإن
دنوا منى قرّبتهم ، وإن والونى واليتهم ، وإن صافونى صافيتهم ، وإن عملوا إلىّ
جاريتهم ، أنا مدبّر أمورهم ، وسائس قلوبهم ، ومتولّى أحوالهم ، لم أجعل لقلوبهم
راحة فى شىء غير ذكرى ، لا يستأنسون إلّا بى ، ولا يحطّون رحال قلوبهم إلّا عندى ،
فوعزّتى وجلالى ، لأمكننّهم من رؤيتى ، ولأشبعنّهم من النظر إلىّ حتى يرضوا ، وفوق
الرضا.
فبلغ يا داود
أهل الأرض أنى حبيب لمن أحبّنى ، وجليس لمن جالسني، وأنيس لمن أنس بي ، وصاحب لمن
صاحبنى ، ومطيع لمن أطاعنى ، ومختار لمن اختارنى ، فهلمّوا إلى كرامتىي ومصاحبتى ،
وأنا الجواد الماجد ، أقول للشىء : كن فيكون».
ثم خنقته عبرة
حتى غشي عليه ، فلمّا أفاق قلت له : يا سيدى ، أوصنى! قال : «يا أبا عمرو ، اقطع
عن قلبك كل علاقة ، ولا تقنع بشىء دونه».
فقلت : يا سيدى
، ادع لى. فقال : «خفّف الله عنك مؤن نصب السير إليه ، ولا يجعل بينك وبينه حجابا».
ثم ولّى
كالهارب من الأسد. وأنشد يقول :
ذكرتك لا أنّى
نسيتك لحظة وأيسر ما فى الذّكر ذكر لسان
وكدت بلا وجد
أموت من الهوى وهام علىّ القلب بالخفقان
فلمّا أراني
الوجد أنّك حاضرى شهدتك موجودا بكلّ مكان
فخاطبت موجودا
بغير تكلّم ولاحقت معلوما بغير عيان
هذا حال المستأنس بذكر الله عز وجل حتى امتزج الذكر بلُبِّهِ بل بلحمه وعظامه.
كم للذكر من فضائل، وكم له من نتائج، فمن نتائجه رفع الحجاب ودوام الاقتراب. الذاكر حبيب الله على أية حالة كان، فهو مذكور عند الله لقوله : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} فلازم الذكر أيها المريد، فإنه نعمة من الله عظيمة عليك، وقيِّدها بالشكر، ومِن شكر النعمة القيام بحقوقها، فشكر الذكر الدوام عليه.