عرف
المغرب عدة رباطات وزوايا طرقية، وذلك بعد القرن الخامس الهجري،
فامتدت هذه الزوايا، واستمرت إلى يومنا هذا في أداء رسالتها التربوية
والتثقيفية والروحية والوطنية . وقد قامت بأدوار هامة على مستوى التعليم والإرشاد
والتهذيب الديني والاخلاقي، بالإضافة إلى الأدوار الجهادية والاجتماعية والسياسية
والاقتصادية والأمنية. ولعل أهمها:" نشر الإسلام بين الشعوب والقبائل التي لم
يصلها الفتح العربي، وترسيخ دعائم التصوف السني، وتنظيم المواسم الدينية المرسية
للعقيدة، والدعوة إلى الجهاد وتأطيره، وتشجيع الرحلة الحجازية إلى الحج، وتأمين
المسالك التجارية والأسواق، وتحقيق التوازن الاجتماعي بين القبائل، وتثبيت
الاستقرار، وضمان الولاء للدولة، والتشبث بالإمامة".
هذا،
وتعرف مرحلة تأسيس الزوايا كذلك بمرحلة المأسسة والهيكلة والتنظيم والعطاء. فقد
كان لكل زاوية أو طريقة أو رباط شيخ قطب، ومريدون متعلمون وسالكون مجذوبون، وأوراد
وسلالة وكتب للذكر والمدارسة.
ومن
المعلوم أن هناك فرقا جليا بين الزاوية والطريقة، وإن كان هناك من يرادف بينهما.
فالزاوية عند الدكتور محمد حجي:" عبارة عن مكان معد للعبادة وإيواء الواردين
المحتاجين وإطعامهم. وتسمى في الشرق خانقاه، وهو لفظ أعجمي يجمع على خانقهات أو
خانقوات أو خوانق. وقيل في تعريف الزاوية المغربية: إنها مدرسة دينية ودار مجانية
للضيافة. وهي بهذين الوصفين تشبه كثيرا الدير في العصور الوسطى. ولم تعرف الزاوية
في المغرب إلا بعد القرن الخامس الهجري، وسميت في بادئ الأمر (دار الكرام) كالتي
بناها يعقوب المنصور الموحدي في مراكش، ثم أطلق اسم (دار الضيوف) على ما بناه
المرينيون من الزوايا كالزاوية العظمى التي أسسها أبو عنان المريني في
خارج فاس، وهي التي ذكرها ابن بطوطة في رحلته. وقد جدد الدلائيون بناءها أيام
انتشار نفوذهم في العاصمة الإدريسية، فظن بعض المؤرخين لأنهم مؤسسوها. ومن أقدم
الزوايا التي حملت هذا الاسم في المغرب زوايا الشيخ أبي محمد صالح الماجري(توفي
سنة 1234م) في آسفي. وقد تعددت زواياه حتى بلغت ستا وأربعين، وانتشرت فيما بين
المغرب ومصر، إذ كان هذا الشيخ يشجع أصحابه على حج بيت الله الحرام، واستكثر من
اتخاذ الزوايا في الطريق التي يسلكها ركب الحجاج ليأووا إليها في مراحل سفرهم
الطويل. "
أما
الطريقة فتعني المسلك العرفاني، أو المنهاج الصوفي، أو التصوف بصفة عامة. وفي هذا
الإطار يقول سيدي محمد بن الصديق الغماري رحمه الله:" فلتعلم أن
الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام
الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم
بعدما بينها واحدا واحدا دينا، فقال: هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم. فغاية ما تدعو إليه
الطريقة، وتشير إليه هو مقام الإحسان، بعد تصحيح الإسلام والإيمان، ليحرز الداخل
فيها والمدعو إليها مقامات الدين الثلاثة، الضامنة لمحرزها والقائم بها السعادة
الأبدية في الدنيا والآخرة. والضامنة أيضا لمحرزها كمال الدين، فإنه كما في الحديث
عبارة عن الأركان الثلاثة. فمن أخل بمقام الإحسان الذي هو الطريقة، فدينه ناقص بلا
شك لتركه ركنا من أركانه. ولذا، نص المحققون على وجوب الدخول في الطريقة وسلوك
طريق التصوف وجوبا عينيا".
1-
التسامح الديـــني:
تنبني
مجموعة من الزوايا على فكرة التسامح الديني، وتعايش الملل والنحل والعقائد
والشعائر والأديان، فقد كان يجتمع في الزاوية المغربية المسلم إلى جانب المسيحي
واليهودي والبوذي كما هو الحال في الزاوية القادرية البودشيشية ببركان.
فقد استقطبت هذه الزاوية كثيرا من المريدين من مختلف الدول والديانات. ومن
أهم هؤلاء: الفيتنامي نغويان هيي دونغ، وزعيم أقلية مسلمة بالفيتنام
تونغ تاهن خان، والبوذي ميشيل طاو شان، والمستشرق الفرنسي إيريك جوفروي Eric Geoffroy،
بالإضافة إلى لائحة من الأكاديميين والباحثين والموظفين أو المواطنين العاديين ممن
قدموا من إسبانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا...
2 - التسامـــح
العــرقي:
استطاع
التصوف الطرقي بالمغرب أن يصهر جميع المغاربة ضمن بوتقة مجتمعية وروحية واحدة، حيث
ذوب هذا التصوف السني المعتدل والوسطي جميع الفوارق الموجودة بين العربي والبربري،
أو بين الحضري والبدوي، أو بين المغربي والأجنبي. حتى قيل:"لولا التصوف لما
انصهرت مكونات المجتمع المغربي، انصهارا ليس ثقافيا أو لغويا فحسب، بل حتى عرقيا،
أفرز إنسانا مغربيا معلوم الصفات معلن السلوك إلى اليوم."
وللتمثيل
والتوضيح، فلقد انخرط الكثير من البرابرة الأمازيغ في مجال التصوف، فأصبحوا مريدين
وسالكين ومجاذيب، بل منهم من أصبح شيخ الطريقة كالجزولي مثلا. وفي هذا النطاق يقول
صاحب كتاب:" مفاخر البربر":" وأما الأولياء والصلحاء والعباد
والأتقياء والزهاد والنساك والأصفياء فقد كان في البربر منهم ما يوفي على عدد
الحصى والإحصاء".
ومن
هنا، يتضح لنا بأن التصوف الطرقي بالمغرب كان مبنيا في جوهره على
التسامح العرقي والإثني، فلا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى والمجاهدة
في سبيل الله.
3-
التسامـــح الجــنسي:
لم
يقتصر التصوف على جنس الذكور فقط، بل مارسته النساء عن صدق ومحبة وإخلاص. ويذكر
تاريخ التصوف بالمغرب الكثير من المتصوفات اللواتي ارتبطن بالزوايا والرباطات. ومن
بين هذه المتصوفات نذكر: السيدة عائشة بنت أحمد الإدريسية صاحبة المناقب والكرامات
الخارقة. فقد قال عنها ابن عسكر:" أنها كانت ليلة المولد النبوي تعتني به،
وتطعم فيه الطعام، وتذبح فيه البقر والغنم حبا في النبي صلى الله عليه وسلم على
عادة فضلاء أهل المغرب في ذلك".
هذا،
ويشيد ابن عسكر أيضا بأهليتها الصوفية، ومكانتها الاجتماعية قائلا:" كان
الناس يتحامون حماها، ولا يقدر أحد على رد شفاعتها لما يعلمون من بركتها، وصدق
أحوالها مع الله تعالى؛ فبفضل دعائها أطلق سراح أبي الحسن زوج الثانية وصاحب له
بعد أن أسرهما البرتغاليون على إثر احتلال طنجة عام 869هـ/1464م."
ومن
الأمهات الفاضلات في مجال التصوف كذلك نستحضر كلا من الفاطمة الفهرية التي أسست
جامع القرويين بفاس، وأم محمد السلام بدكالة التي تنبأت بانتصار المسلمين على
الإسبان في معركة الأرك أثناء اشتعالها بالأندلس، والمتصوفة الولية الصالحة ريسون
التي كان لها دور كبير في فك الأسرى المغاربة . وهناك متصوفات أمازيغيات مشهورات
في مجال الولاية والعرفان والبركة المنقبية والمحبة الإلهية، وقد ذكرهن محمد
المختار السوسي في بعض كتبه القيمة ، مثل: كتاب" المعسول"،
وكتاب" رجالات العلم العربي في سوس"، وكتاب" من أفواه الرجال"
...
4-
التسامـــح الطبــقي:
ساهم
التصوف بصفة عامة والتصوف الطرقي بصفة خاصة في إزالة الفوارق الطبقية، والحد من
التفاوت الاجتماعي، فجمع بين الفقراء والأغنياء، والأقوياء والضعفاء، والساسة
والرعية، فشكلوا صفا واحدا داخل المنظومة الصوفية العرفانية، وخاصة أثناء السفر
لأداء فريضة الحج المباركة، وزيارة الأماكن المقدسة. فاستلزم كل ذلك أن يكون هناك
نوع من التسامح الطبقي والاجتماعي بين جميع فئات المجتمع وطبقاته المتصارعة حول
التملك الفردي، والإثراء المالي، والاستمتاع بالجاه والنساء. ويعني هذا أن التسامح
الطبقي يتجلى واضحا في التضامن والتكافل والتعاون والتآزر الاجتماعي، ولاسيما في
فترات الجفاف والنكبات والكوارث الطبيعية. ومن هنا، فقد كانت الزوايا
المغربية تطعم الفقير، وتكرم الضيف وابن السبيل، وتحسن إلى المسكين والضعيف. فقد
كانت من جهة أخرى، تحارب الشح والبخل، وتحث الأغنياء ورجال السلطة على البذل
والعطاء والإحسان للفوز بنعيم الآخرة وأجر الدارين.
هذا،
وقد ساهم كثير من الأولياء والشيوخ المتصوفة في تحقيق التكافل الاجتماعي، وإزالة
الضرائب أو التخفيف منها لحماية الفقراء والتجار على حد سواء، والمشاركة في بذل
الخير وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمساهمة في تحقيق العدالة،
واستتباب الأمن الداخلي والخارجي، وإصلاح المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا
وأخلاقيا، وتحرير الأسرى المغاربة من سجون النصارى إبان العصر الوسيط.
وكان
الأولياء والصلحاء المغاربة:" يشفقون على يتامى المسلمين، ويطعمون المسكين،
ويفرجون كروب المعسرين " . ومن الأمثلة الدالة على ذلك أنه لما أصابت
مدينة أزمور مجاعة شديدة سنة 535هـ، انبرى الشيخ أبو حفص عمر بن معاذ
الصنهاجي إلى إطعام المتضررين منهم، فجمع:" خلقا كثيرا من المساكين،
فكان يقوم بمؤونتهم، وينفق عليهم ما يصطاده من الحوت وغيره إلى أن أخصب
الناس".
وهناك
من الأولياء من كان يستسقى به بركة ووساطة ورجاء وتوسلا، فالمفتي أحمد بن زرع خطيب
جامع القرويين بفاس، طلب منه الناس:" سنة القحط الاستسقاء، فصلى بهم خارج باب
الفتوح، وقدم بين يديه آله صلى الله عليه وسلم ليتشفع بهم- كما فعل عمر بن الخطاب
بالعباس- فسقى الناس وحمد الله على إجابة دعائهم".
وطلب
أهل تادلا من الشيخ أبي زكريا أن يستسقي بهم، فأظهر هذا الولي الضعف والفقر
والحاجة إلى الله، فرمى بقلنسوته جانبا، فقال مستعطفا:" يا رب هذا الأقرع
يسألك الغيث، قال الراوي: فوالله ما نزل الناس عن ذلك المكان حتى مطروا مطرا
غزيرا".
وكثيرا
ما كان يلتجئ المغاربة إلى أوليائهم وشيوخهم للاستغاثة بهم استجداء واستسقاء
واستمطارا إبان مواسم القحط والجفاف والكوارث الطبيعية كالتجائهم إلى أبي العباس
السبتي، وأبي يعزى، وابن حرزهم، وابن العريف...
وهكذا،
يظهر لنا أن التصوف بالمغرب سواء أكان تصوفا سنيا أم تصوفا طرقيا كان مبنيا في
جوهره على فكرة العفو والتسامح والتعايش ومحبة الآخر، ونبذ العنف والكراهية
والتطرف والإرهاب. ومن ثم، يمكن الحديث عن أنواع كثيرة من التسامح الصوفي والطرقي
بالمغرب كالتسامح الديني والعقدي، والتسامح الطائفي، والتسامح اللغوي، والتسامح
العرقي والإثني، والتسامح اللوني، والتسامح الجنسي، والتسامح الطبقي والاجتماعي،
والتسامح السياسي والحزبي والنقابي.
وعليه،
فلا يمكن للتسامح أن يتحقق في المجتمع العربي والإسلامي، ويتم تعميمه بين الناس
إلا عن طريق التوعية الدينية الصحيحة، وممارسة التصوف العرفاني الوسطي، والانخراط
في الزوايا والرباطات والمدارس الطرقية السنية المعتدلة لتهذيب النفوس البشرية
المذنبة، وتزكيتها تحلية وتخلية وجلاء، وتخليق الضمائر قيميا ودينيا ووجدانيا.
د.
جميل حمداوي