الباب الثاني في الذكر وآدابه والحث
على استعماله
اعلم
أن الذكر هو تِرداد اسم المذكور بالقلب واللسان ولا شيء أقرب لطريق الوصول إلى الله
عز وجل منه، فهو علم على وجود ولاية العبد المشتغل به، فمَن وُفِّقَ للذكر أُعطيَ
منشور الولاية، ومن سُلبَ عنه الذكر فقد عُزل عن الولاية، قال بعضهم شعراً :
والذكر
أعظم باب أنتَ داخله لله فاجعل له الأنفاس حراسا
قال
الأستاذ القشيري : (الذكر عنوان الولاية، ومنار الوصلة، وتحقيق الإرادة، وعلامة
صحة البداية، ودلالة صفاء النهاية) وليس وراء الذكر شىء، وجميع الخصال المحمودة
راجعة الى الذكر، و منشؤها من الذكر، قال بعضهم : (إذا أراد الله أن يوالي عبده
فتح له باب ذكره، فإذا استلذ بذكره، فتح له باب القرب، ثم رفعه إلى مجالس الأنس
بالله، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب، وأدخله دار القرب وكشف له
الجلال والعظمة، فإذا وقع نظره وبصره على الجلال والعظمة خرج عن حسه ودواعي نفسه،
فكان تحت حكم ربه لا تحت حكم نفسه). وقد ورد الحث على ملازمة الذكر قال تعالى :
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا
كَثِيرًا}[الأحزاب:41] {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ}[البقرة:239] {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}[العنكبوت:45] {وَذَكِّرْ
فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55] {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}[آل عمران:191] وقال رسُولَ
اللَّه ﷺ: يقول اللَّه تَعالى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا
ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في
مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ
تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ
باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً [متَّفقٌ عليهِ]. وعن عبد الله
بن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قال رسُولَ اللَّه ﷺ: {مَنْ عَجَزَ مِنْكُمْ
عَنِ اللَّيْلِ أَنْ يُكَابِدَهُ، وَبَخِلَ بِالمَالِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَجَبُنَ
عَنِ العَدُوِّ أَنْ يُجَاهِدَهُ فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللهِ}[البيهقي:شعب الإيمان508/1]
وقال ﷺ : {أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعمَالِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي
دَرَجَاتِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ
الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ
فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ:
ذِكْرُ اللَّهِ}[الترمذي:3374/9 عن أبي الدرداء] وعن جابر خرج علينا رسول الله ﷺ
يوماً ونحن في مسجد المدينة فقال : {يا أيُّها النَّاسُ إنَّ للهِ سرايا من
الملائكةِ تجُولُ وتقِفُ على مجالسِ الذِّكرِ في الأرضِ فارتعوا في رياضِ
الجنَّةِ، قالوا : وأين رياضُ الجنَّةِ ؟ قال : مجالسُ الذِّكرِ، فاغدُوا وروحوا
في ذكرِ اللهِ، وذكِّروا أنفسَكم : من كان يحبُّ أن يعلمَ منزلتَه عند اللهِ
فلينظرْ كيف منزلةُ اللهِ عنده، فإنَّ اللهَ يُنزِلُ العبدَ منه حيث أنزله من
نفسِه}[الحاكم في المستدرك494/1] قال عبد الله بن بشير : أتى رجل إلى رسول الله ﷺ
فقال: يا رسول اللهِ إنَّ شرائع الإسلام قدْ كُثرَتْ عليَّ، فَأمُرْنِي بشيءٍ
أتشبَّثُ بهِ. فقال رسول الله ﷺ : «لا يزالُ لسانُكَ رطْباً بذكرِ اللهِ»[سنن ابن
ماجة/3793] وفي الخبر عن رسول الله ﷺ قال : (إن الله يقول : عبدي اذكرني ساعة
بالغداةن وساعة بالعشي أكفك ما بينهما) [حلية الأولياء 213/8].وقال ﷺ : (مَثَلُ
الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الحَيِّ
وَالمَيِّتِ)[البخاري] وقال ﷺ : ( ليس يَتَحَسَّرُ أهلُ الجنَّةِ على شيءٍ إلَّا
على ساعةٍ مرَّتْ بهم ولم يذكروا اللهَ فيها)[الطبراني في الكبير182/2 عن معاذ بن
جبل] وقال ﷺ : (مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا وَتَفَرَّقُوا مِنْهُ ولَمْ
يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَأنَّمَا تَفَرَّقُوا عَنْ جِيفَةِ حِمَارٍ،
وَكَانَ عَلَيْهِم حَسْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ) [سنن أبي داود عن أبي هريرة] وقال
ﷺ : (مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ أَحَبَّهُ اللهُ تَعَالَى)[فيض القدير عن
عائشة] وقال ﷺ : (مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ
النِّفَاقِ)[شعب الإيمان للبيهقي عن أبي هريرة] وقال ﷺ : (لَذِكْرُ اللهِ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ خَيْرٌ مِنْ حُطَامِ السُّيُوفِ فِي سَبِيلِ
اللهِ)[مسند الفردوس للديلمي5402/3] وقال ﷺ : (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ
مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ
إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ
وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)[صحيح مسلم
عن أبي هريرة] وقال ﷺ : {أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ حَتَّى يَقُولُوا :
مَجْنُونٌ}[مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد] وقال ﷺ : (أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ
حَتَّى حتى يقول المنافقون إِنَّكُمْ مُرَاءون)[فيض القدير].
وقال
بعضهم : (الذكر سيف المريد يقاتل به أعداءه من الجن والإنس وبه يدفع الآفات التي
تطرقه) وقال بعضهم : (من ذكر الله حفظه الله) ومن خصائص الذكر أنه غير مؤقت بوقتٍ،
فما من وقت إلا والعبد مطلوب فيه الذكر، إما وجوباً وإما ندباً بخلاف غيره من
الطاعات.
فينبغي
للعبد أن يكثر منه في كل حالاته، فيستغرق فيه جميع أوقاته، وليس له أن يتركه لوجود
غفلة فإن تَرْكه له أشد من غفلته فيه، فعليه أن يذكر وإن كان غافلاً، فلعل ذكره مع
وجود الغفلة يرفعه إلى الذكر مع وجود اليقظة، وهذا نعت العقلاء، ولعل ذكره مع وجود
اليقظة يرفعه إلى الذكر مع وجود الحضور مع المذكور، وهذا صفة العلماء، ولعل ذكره
مع وجود الحضور يرفعه إلى الذكر مع وجود الغيبة عن سوى المذكور وهذه مرتبة
العارفين المحققين من الأولياء، قال الله تعالى : {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا
نَسِيتَ}[الكهف:24] أي نسيت غيره.
فترك ذكر الغير هو أساس كل خير، فإن نسيت ما سواه به كنت ذاكراً لله حقًّا، وفي هذا المقام ينقطع ذكر اللسان، ويكون العبد محواً في وجود العيان.
وقال
الواسطي مشيراً إلى هذا المقام : (الغافلون في ذكره أشد غفلة من الناسين لذكره)
وهذا من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد وصف الله قلب أم موسى بمعنى ذلك في
قوله تعالى : {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} من كل شيء إلا من ذكر
موسى، فكادت أن تبدي به من غير قصد منها لذكره ولا تدبر، بل كان تركها للتصريح
بذكره صبراً بما ربط الله على قلبها لتكون من المؤمنين.
تنبيه
: ذكر الحروف بلا حضور ذكر اللسان، وذكر الحضور في القلب هو ذكر القلب، وذكر
الغيبة عن الحضور في المذكور هو ذكر السر، فأولى ما يكون الذكر أولا باللسان، ثم يستولي
على القلب، ثم يستغرق بالمذكور.