آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تُحفةُ السَّالِكِين ودَلاَلَةُ السَّائِرِين لِمنْهَجِ المُقَرَّبِين -9

ثم اعلم أنه لا يحصل لك الفتح إلا بالتخلق بآداب الذكر لأن كل عبادة خلت عن الأدب فهي قلة الجدوى، وأجمع الأشياخ على أن العبد يصل بعبادته إلى حصول الثواب ودخول الجنة، ولا يصل إلى حضرة ربه إلا إن صحبه أدب في تلك العبادة.

ومن المعلوم أن مقصود القوم القرب من حضرة الله الخاصة، المصطلح عليها عندهم، ومجالسته فيها من غير حجاب، وأما الثواب فحكمه عندهم كحكم علف البهائم، قال تعالى : (أَنا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي)[1] يعني ذكرني على وجه الأدب والحضور، وقال صلى الله عليه وسلم : (أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي)[2] والمراد بالمجالسة انكشاف الحجب للعبد أنه بين يدي ربه عز وجل، وهو يراه ومطلع عليه فمتى أدام العبد هذا الشهود فهو جليس الله، فإذا غاب عن ذكر الشهود خرج من حضرة الله، فافهم، فليس المراد بحضرة الله مكاناً مخصوصاً في السموات أو في الأرض، كما قد يتوهم الضعفاء، فإن الله لا يحويه مكان، ولا يمر عليه زمان، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً.

وعدَّ بعضهم للذكر ألف أدب، لكن قالوايجمع هذه الآداب كلها عشرون أدباً، فمن لم يتخلَّق بها فيبعد عليه الفتح، فاعلم أن منها خمسة سابقة على الذكر، واثنى عشر حال الذكر وثلاثة بعد الفراغ من الذكر.

فأما الخمسة التي هي سابقة على الذكر فأولها التوبة وحقيقتها الرجوع، يقال : تاب إذاً رجع، وشرعاً : الرجوع إلى الله عن ما هو مذموم في الشرع إلى ما هو محمود فيه.

وشرطها : الندم على ما عمل من الخالفات، والإقلاع في الحين، والعزم على أن لا يعود.
فإن تعلقت بآدمي اشترط عليه رد المظالم إلى أهلها، وهي واجبة على الفور.
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}[التحريم:8] وقال تعالى : {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيٌّهَا الـمُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ} [النور: 31].
فالتوبة تمحو الذنوب وتقرب المحب من المحبوب وتمحو ما قبلها.
قال تعالى : {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان:70].
وقال صلى الله عليه وسلم : (التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ)[3] وفي الخبر : (قل للظالمين لا يذكروني، فإن ذكري عليهم وبال)[4] أي : الذين لم يتوبوا من الأقوال والأفعال والأحوال. 

وزاد بعضهم في الشروط : ترك خلان السوء، وهم الذين كانوا يعصون الله معهم قبلها.
وقال صلى الله عليه وسلم : (يُحشَرُ المَرْءُ دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ)[5] وقال : (الجَلِيسِ الصَّالِحِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ اِنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْهُ شَىْءٌ اَصَابَكَ مِنْ رِيحِهِ وَمَثَلُ جَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْكِيرِ اِنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْ سَوَادِهِ اَصَابَكَ مِنْ دُخَانِهِ).[6]
وقال بعضهم : من جالسَ ابن صنعة جره إلى صنعته، فمن صحب أبناء الدنيا جذبوه إليها، ومَن صاحبَ أبناء الآخرة جذبوهُ إلى الآخرة. 
وقال أبو الليث السمرقندي : من جلس مع ثمانية ابتُلي بثمانية :
فمن جلس مع الأغنياء زاده الله حب الدنيا والرغبة فيها. 
ومن جلس مع الفقراء زاده الله الشكر والرضى بما قسم له. 
ومن جلس مع الصبيان زاده الله الحقر والمزاح. 
ومن جلس مع النساء زاده الله الحب والشهوة. 
ومن جلس مع السلطان زاده الله الكبر وقسوة القلب. 
ومن جلس مع الفساق زاده الله تسويف التوبة والجرأة على الذنوب. 
ومن جلس مع العلماء زاده الله العلم والعمل به. 
ومن جلس مع الصالحين زاده الله الرغبة في الطاعة والزهد في الدنيا.
فلُذْ بالصالحين عسى أن تهتدي إلى الطريق المبين.
** ** **
1 - رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب الذّكر فِي شعب الايمان من جِهَة الْحُسَيْن ابْن حَفْص عَن سُفْيَان عَن عَطاء بن ابي مَرْوَان.
2 - رواه العسكري في كتابه " الأمثال " والسرقسطى في كتابه "الدلائل " والسيوطي في كتابه " الجامع الصغير " وابن السمعاني في " أدب الإملاء " وأبو نعيم الأصفهاني في تاريخ أصبهان .
3 - رواه ابن ماجة (4250) والطبراني في " المعجم الكبير " (10281) وأبو نعيم في " حلية الأولياء " (4/210) والبيهقي في " السنن " (20561) من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه.
4 - جاء في الزهد لأحمد بن حنبل : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى دَاوُدَ : قُلْ لِلظَّلَمَةِ لَا يَذْكُرُونِي ؛ فَإِنِّي حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَذْكُرَ مَنْ ذَكَرَنِي ، وَإِنَّ ذِكْرِي إِيَّاهُمْ أَنْ أَلْعَنَهُمْ.
5 - رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والبيهقي.
6 - ورواه أبو داود في سننه كتاب الأدب، (باب من يؤمر أن يجالس)




التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية