فقوله صلى الله عليه وسلم : (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)[1] جمع فيه بين شريعة وحقيقة بقوله : "اعْمَلُوا" شريعة و"كُلٌّ مُيَسَّرٌ..." إلخ. حقيقة فكأنه قال عليه السلام :"اعْمَلُوا" أي توجهوا للعمل في الظاهر ولستم بعاملين في الحقيقة.
وقوله عليه السلام : (لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)[2] حقيقة وقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[3] شريعة، فالشَّريعةُ تُنْسِبُ العَمَلَ للعَبْدِ باعتبار ما جُعِلَ فيه من الاختيار في الظَّاهرِ الذي هو الكَسْب، والحقيقة تنفيه عنه باعتبار ما في نفس الأمر.
وهكذا يسيرُالعَبدُ بينَ حقيقة وشريعة.
فالحَقيقةُ : اعتقادٌ في الباطن، والشَّريعَةُ : عملٌ في الظاهر، وقد تمسَّكَ الكُفَّارُ بالحقيقة وحدها حيث قالوا : {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}[4]{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم}[5] فلم ينفعهم ذلك حيث أهملوا الشريعة ورفضوها.
وكذلك من قال : دعاني وسدَّ الباب فما تكون حيلتي فإن احتج بالقدر، مع أنّ الاختيارَ الذي جعله الله في العبد في الظاهر حاصل له في العادة، لأنه قادرٌ على الخُرُوجِ منَ الكُفرِ، ينطق بالشهادة مثلاً. وأمَّا الجَبْرُ الباطِنِيُّ والقَهْرُ الإلهيُّ فلا يتعلَّقُ بهِ التَّكليفُ؛ إذ ليسَ في طَوْقِ العَبدِ، بل هو من أسرارِ قهرِ الرُّبوبيَّةِ الذي اختصَّ الله به {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.[6]
قال سهل رضي الله عنه : (الألوهية أسرار لو كشفت لبطلت النبوءات، وللنبوءات أسرار لو كشفت لبطل العلم، وللعلم أسرار لو كشفت لبطلت الأحكام).
فلو انكشفت أسرار الألوهية من غير رداء لصار الخلق كلهم أغنياء عن تلقي العلم لاستغراقهم في بحار الأحدية؛ فلا يحتاجون إلى واسطة ولو انكشفت أسرار النبوءات للخلق؛ لصاروا كلهم علماء لظهور العلم الإلهي الذي كان كامناً في بطونهم، فيستغنون عن تلقي العلم من الأنبياء، ولو انكشفت أسرار العلم بحيث يتبين الشقي من السعيد لبطلت الأحكام، إذ يقول الشقي : لا ينفعني عمل فلا يعمل، ويقول السعيد : أنا سعيد لا أحتاج إلى عمل، فتبطل أحكام الشرائع، فأبهم الله تعالى هذا الأمر عن عباده، ودعا الكل إلى طاعته وتوحيده فهدى من سبقت له السعادة، وخدل من سبق له الشقاء. قال تعالى : {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.[7]
** ** **
2 - رواه البخاري ومسلم.
3 - سورة النحل - الآية 32
4 - سورة الأنعام - الآية 148
5 - سورة الزخرف - الآية 20
6 - سورة الأنبياء - الآية 23
7 - سورة يونس - الآية 25