رسالة تحدث فيها ابن عجيبة عن الطلسام المسمى بالكنز المستور والمحجوب فى توحيد الفعال والصفات والذات.
المؤلف: أبو العباس أحمد ابن عجيبة الحسني
** **
الحمد لله وحده. وصلى الله على من لا نبي بعده. وبعد :
فهذا تقييد عجيبٌ يَرفِع حجاب الوَهْم عن الحادق اللَّبيب، فيتضمَّنُ رَفْع الحجاب عن السرِّ المصُون، وزوال الطَّلْسم عن الكَنزِ المَدفُونِ، وسمَّيته :"كَشْفُ النِّقَابِ عَنْ سِرِّ لُبِّ الأَلْبَابِ" وهذا أوله والله المستعان.
اعلم أن الحق جلَّ جلاله، أودع هذا الآدمي أسرار ذاته وصفاته وأفعاله، لكن حَجبَ ذلك عنه بحكمتِهِ وقَهرِهِ، فجعل على كل واحدٍ من الأسرارِ الثلاثة طلسَماً وحجاباً مَستوراً، فسترَ ذلك السِّر عن القلب بسبب الطلسام الذي غشَّى به قلبه "طلسَام توحيد الأفعال".
اعلَمْ أنَّ فِعْل العبدِ كلَّهُ منَ الله، بل لا فاعل في الوجود سوَاهُ. قال تعالى : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}[القَصص:68]وقال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}[هود:107] وقال : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصّافات:96] ، { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[البقرة:253].
ثم إن الحق جلَّ جلالهُ جعل على قلب العبد طَلْسَاماً غشَّى به نور توحيد الأفعال، وهو ما جعلَ له من الاختيار في الظَّاهرِ فتوهَّم أنه مختار إن شاء فَعَل وإن شاءَ تَرَكَ. وهذا يحُسُّ به كل عاقِلٍ من نفسِهِ حتى يُفرِّق بين حركة الارتعاش وغيرها.
ولذلك قيل في الجَبْرية : إنهم قَومٌ بَلَهٌ لم يُفرِّقُوا بينهما، وهذا هو المسمَّى بالكسبِ عند أهل السنَّة. وبالحكمة عند الصُّوفيَّة، فيقولون : القُدرة تُبْرِز، والحِكمَة تَسْتُرُ. وبسبب هذا الاختيار الظاهر جاءت الشَّرائع وعليه يترتَّبُ الحساب، من الثَّواب والعقاب، وفي حقيقة الأمر : لا فاعل إلاَّ الله. لكن هذا سرٌّ من أسرارِ الألوهيَّة أَخفَاهُ الله عنْ عَبدِهِ وجعلَ لهُ اختياراً في الظَّاهر لتقوم به الحجَّةُ عليه {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}[الأنعام:149]؛ وهذا السِّرُّ الذي سترهُ الله لا يصحُّ للعَبدِ أن يَحتَجَّ به لنفسِهِ فيترك العمل أو يعمل بالمعاصي، لأن العملَ مطلوبٌ من ناحية الشريعة وهي إنما تعلَّقتْ بالظَّواهر، وهذا الطَّلسام يَغْلظ ويرقُّ، بقدرِ رقَّةِ الحجابِ وكثَافتِه، فإذا غلظ الحجابُ كثر في العَبْدِ التدبي والاختيار حتى رُبَّما يَجْزِمُ أنَّهُ الفاعِلُ المُخْتار، كما توهَّمتِ المُعتزلة، وإذا ضَعُفَ الطلسام ورقَّ الحِجابُ قَلَّ تدبيرُهُ واختِيارُهُ وانْعَزلَ العَبْدُ مِنْ حَولِهِ وقُوَّتِهِ، فإذَا اتَّصَلَ العَبْدُ بشيخِ التَّربيَّة عزلهُ عن اختيارِ نَفْسِه، وأمرهُ بتحكيمهِ على نفسه في أموره كلها. فيقف عند أمره ونهْيِه فإذا حصلَ له الفهم عن الله وصار يُفقهه قلبه في الأمور حَكَّمهُ الله على نفسهِ وانْعزَلَ عن تَدبيرِهِ واختياره، وإذا وقع منهُ التدبيرُ والاختيار كان بالله ومن الله وإلى الله محلول فيه، يُدبِّر ويَنْظر ما يفعل الله فحينئذٍ يَنكَسِرُ عنه الطلسَام عن توحيد الأفعال، فيرَى الأَفعالَ كلها منَ الله ذَوْقاً وكَشْفاً لا عِلْماً فقط. فيدخل حينئذٍ في السَّبعين ألفاً الذين يَدْخُلُونَ الجنَّة بِغَيْرِ حِسَابٍ، إذْ لَمْ يَبْقَ لهُ فعلٌ يُحَاسَبُ عليهِ بخلاف غيره لكثافة حِجَابه، يَنْسُبُ الفِعل لنفْسِهِ ولِغَيْرِهِ.
وعلامتهُ : أنَّه ينقص رجاؤه عند وُجُود الزَّلل ويُقْويه عند وجود العمل، ويغضب على من أذاهُ مع أنَّهُ يعتقد لا فاعل إلاَّ الله وأنَّ العَبد مَجبُورٌ في قَالَبِ الاخْتِيَارِ لكن لا يكفي في هذا مجرَّد العِلْمِ ولا بدَّ من الذّوْق الصَّريح كما تقدَّم. ومن هذا الذَّوق عَبَّرَ الجيلاني رضي الله عنه حيثُ قال :
أَرانيَ كَالآلاتِ وَهوَ مُحَرِّكي * أَنا قَلَمٌ وَالاقْتِدارُ أَصابِعُ
ولَستُ بِجَبْري ولكن مُشاهِدُ* فقَالَ حَبيبٌ ما لَهُ مَنْ يُنَازِعُ