وفي ذكر القلب والاستحضار يرد على الذاكر أحوال يتوهم أنه يربو ويعظم حتى أنه أكبر من كل شيء، ثم يرد عليه من الحق قهر من الخوف فيرجع لحاله الأول، وهاهنا يخاف عليه من النفس والشيطان فيقصر في الذكر بالتصريح فيرجع فتأخد روزنة قلبه في الانسداد كما أخدت في الانفتاح بالتدريج حتى تنسيه بالكلية، فتكون تحت القهقر {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124] ومن عرف طريقاً ثم أعرض عنها عذبه الله عذاباً أليماً لم يعذبه أحداً من العالمين وهذا أقبح من الامتناع من المشروع، إذ مثله مثل من كفر بعد أن آمن. فيجب على الطالب أن يكون ذكر الأم نصب عينه ولا يصرف نفسه عنه طرفة عين، ويستوعب جميع أوقاته في الذكر، ويجتهد أن لا يخلو نَفَسٌ من أنفاسه من ذكر الله تعالى، وليقترب إلى الله بأفضل الأعمال، وأفضلها عندهم أن يسلم نفسه إلى ذكر الله ويفنا فيه حتى يغيب عن جميع الأشياء، حتى عن نفسه، وعن الذكر بالمذكور.
فإذا فنى الذاكر عن حسه ودواعي نفسه ولم يبق فيه غير الله صار القلب بيت الحق، فيخرج الذكر من غير قصد ولا تدبر ولا كلفة، فحينئذ يكون الحق المبين لسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وأذنه التي يسمع بها، قد استولى العلي الجواد على الفؤاد فملكه وعلى الجوارح فصرفها فيما يرضيه، وعلى الصفات من العبد فقلبها كيف شاء في مرضاته، فلذلك يخرج الذكر من غير تكلف، وتتبعه الأعمال بالطاعات لذة ونشاطاً.
فإذا لازم الشخص الذكر استبدل الذكر الإنسي بالذكر القدسي، وترقى من ضيق اذكروني إلى فضاء أذكركم، فيزداد الشرب عطشاً بالقرب من المذكور شوقاً إلى القرب منه.
وحيث لازم الذاكر همته في الذكر ولم يلتفت إلى الواردات ولا إلى الكرامات ولم يلاحظها نال المُراد، وترد عليه علوم حتى يظن أنه فُتح عليه بعلوم الأولين والآخرين، فإذا لاحظ ما يرد عليه من العلوم فهو سوء أدب فيستحق العقوبة، وعقوبته في هذه الحالة أن يرد إلى حال الفهم، والفرق بين حال الفهم والعلم أن العلم وجود يرد على القلب من حيث العلم، والفهم نظر إلى ذلك العلم، فإذا نظر إلى الفهم فقد أساء أدبه، وعقوبته أن يرد إلى حال الغفلة.