وكما تقدَّمت الإشارة إليه، فالله تعالى قد وضع بيد المؤمن معياريْن : معيار العقل، ليفرِّقَ بين الحسنِ والقبيح، وبين الفضائل والرذائل، ومعيار الفاسدين ... ومن الخطأ البيِّن أن تحكم على مجتمع مَّا بأنَّه صالح أو فاسد بكل أفراده وأصوله وفروعه. إنْ هو إلاَّ كبستان، ينتج الحامض والحلو. والمنطق والسليم يقتضي بأن نقرأ إرادة الله وحكمته على صفحات الحياة، ونرى أنَّ المجتمع ككائنة بشريَّة يشتمل على خير وشر، وخطأ وصواب، وصلاح وفساد، وحق وباطل... وأنتج أهل اليمين وأهل اليسار، والسعداء والأشقياء، والمحقّين والمبطلين... وعاش داخله صالح وطالح، ومؤمن وكافر، وعالم وجاهل، وعارف بالله ومُلحد... سبحان من لا يقع في ملكه ما لا يُريد. والحقُّ أبديٌّ، صانه مَن اسمه الحق سبحانه وتعالى، والباطل عمره قصير، لا يعيش بجانب الحق إلّا قليلا. وبضدّها تعرف قِيَم الأشياء، كما تقدّم. وعلينا أن نقرأ - روحيًّا وشعوريًّا ووجدانيًّا - حكمة المكوِّن في أكوانه ونسلم بما تسطِّره يد القدرة على صفحات الحياة، فنحتفظ بما هو صالح، ونحاول إصلاح ما هو فاسد، لكن بأساليب إسلاميّة سلميّة شرعيّة إلهيّة ربانيّة... حتى لا نضيف - باسم الإصلاح- فساداً إلى فساد.
وإنَّ أي مجتمع لا يخلو من مُصلحين محافظين على القيم المعنويّة. يمثِّلون المثاليَّة في ميدانهم، ويُمتَحنون بمَن يُعاكسهم ومَن على نقيضهم. وكما تقدَّمتْ الإشارة إليه، فمن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أصحابه، الذين كانوا معالم الهداية، ونجد بجانبهم منافقين، يرأسهم عبد الله بن أُبَيْ. يُصلّون مع الرسول صلى الله عليه وسلم ويكيدون للإسلام وراءه، وي رواية الحديث نجد الرجال الثِّقة المُعتَمَدين في رواية الصحيح، ونجد المدلّسين والمجرَّحين والوضّاعين، وفي العلماء نجد العلماء بالله أو العارفين به، الذين كانت قلوبهم محطَّ تجليَّات الحق، وموطن الحقيقة القلبيّة، والمعرفة الربانيّة، حافظوا عليها، دون الاعتداد بها، ونجد المدّعين للحقيقة الغيبيّة نفاقاً، وقلوبهم هواء{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ونجد العلماء بشرع الله، الذين هم حملة الشريعة وحماتها، ضحَّوا بحياتهم في سبيل شرحها ونشرها، ونجد من ينعتون بعلماء السوء، أو الماديّين الذين يعيشون على حساب شرع الله.
وفي السلفيّين نجد صالحي العلماء، الذين حافظوا على شرع الله، وقاوموا كلّ انحراف يمسّ قداسته، ونجد المارقين من نهجهم وسلوكهم، ممَّن يدَّعي السلفيَّة، ويقول فيها عن غير علم وفهم ورويّة، ويفسد ما أصلحه الأوائل، وفي الصوفيّة نجد العلماء الربانيّين : أصحاب الحقيقة والشريعة، الذين يُصلح الله بهم العباد والبلاد، ونجد المُبتَدِعة والمشعودين والمضلِّلين{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}[الشورى:7] والمواضيع متشاكسة ومتشعِّبة ومتداخلة، فتحتاج إلى إعادة التوضيح، وفرز الأوراق مرّة بعد أخرى. وهو ما نحاوله.
وممّا يجب اعتقاده، ويرتبط بالحقيقة الإسلامية المحفوظة، أن ما أكرم الله به سيدنا محمدا مِن معاني الشريعة والحقيقة، وما يصلح به الظاهر والباطن، واستمرار من يحملها بالتوارث عنه، وتتجلّى في حقائقهم وأعمالهم وأخلاقهم، وما يزال في أمته، وسوف يبقى إلى قيام الساعة، كما تقدّم في حديث البخاري ومسلم : (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ - وفي رواية مَن خالَفَهُم - حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ).
والذين يقنطون ويقنِّطون العباد، ويردِّدون لم يبقَ إلاّ الظلام مُخطؤون في حقِّه تعالى، نعَم، في بواطنهم، وعدم رجوعهم إلى مفرِّج الكُرَب، كلَّما ادلهمَّ أمر، أو نزل مكروه، لم يبق أمامهم إلّا الظلام، وإلّا فالظلام في المجتمع كالظلام في الكون، وكلاهما يُغبّبان شمس الحقيقة وشمس السماء، حتى تطلع هذه على القلوب، وتلك على الأكوان، وأعمى البصيرة لا يرى هذه، إذا طلعت في سماء الحقيقة، كما لا يرى أعمى البصر تلك، إذا طلعت في سماء الفضاء الكوني، ولديهما تستوي الظلمة والنور، وبالحسّ يتّضح المعنى. إذاً في وسط الظلام الاجتماعي تطلع شمس الحقيقة، كما طلعت شمس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في ظلام الجاهلية الأولى، مع الفرق بين الأصل والفرع. والذين ينتظرون فرج الله، كلّما اشتدّ الظلام، ويرقبون طلوع شمس الحقيقة، ويتوجّهون بقلوبهم إلى مصدرها وموقع أنوارها هم المؤمنون المتفائلون، الذين قلوبهم متعلِّقة بعرش الرحمان، وليس المتشائمون والقانطون. ومن ثَمَّ فالحقيقة لا تختلف في ذاتها، وإنّما الناس هم الذين يختلفون حولها، ما بين مَن يتجاوبُ معها روحيًّا، ومَن يتجاوب معها عقليًّا،. وهي من عالم الأرواح، والتعارف بين الأرواح وعدمه يكون في الأزل. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : (الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ).