(رأي العلماء فيه (ابن عربي
اختلف أهل العلم في أمر ابن عربي فمنهم من أنكر عليه ومنهم من أثنى عليه وعظمه، ونكتفي بسرد ما جاء في التاج المكلل لأبي الطيِّب القنوجي(1) الذي جمع قول العلماء فيه ونظنه حادى الصواب والله أعلم بعلمه.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: «إن له توسعًا في الكلام، وذكاءً وقوةَ خاطرٍ حافظةً، وتدقيقًا في التصوف، وتآليف جمة في العرفان معتبرة، ولولا شطحة في الكلم، لم يكن به بأس، ولعل ذلك وقع منه حال سُكرِه وغيبته، فيرجى له الخير».(2)
قال ابن مسدي في جملة ترجمته: «كان جميل الجملة والتفصيل، محصِّلاً لفنون العلم أخص تحصيل، وله في الأدب الشأُو الذي لا يُلحق، والتقدم الذي لا يُسبق. قال: وكان ظاهري المذهب في العبادات، باطني النظر في الاعتقادات، خاض بحار تلك العبادات، وتحقق بمحيا تلك الإشارات، وتصانيفُه تشهد له عند أولي البصر بالتقدم والإقدام، ومواقف النهايات في مزالق الأقدام، ولهذا ما ارتبتُ في أمره، والله تعالى أعلم بسرِّه».(3)
وقال الصلح الكتبي: «وعلى الجملة، فكان رجلً صالحًا عظيمًا، والذي نفهمه من كلمه حسنٌ، والمشكل علينا نَكِلُ أمره إلى الله تعالى، وما كلفنا اتباعه، ولا العمل بما قاله»، وقد عظمه ابن الزملكاني، فقال: «قال الشيخ محيي الدين بن عربي البحُر الزاخر في المعارف الإلهية. وذكر من كلمه جملة، وذكر له في "الفوات" شعرًا رائقًا كثيرًا، واختصركتابه "الفتوحات" الشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني، المتوفَّى سنة 973ه، وسمى ذلك المختصر: "لواقح الأنوار القدسية المنتقاة من الفتوحات المكية،" ثم اختصر هذا
المختصر، وسماه: «الكبريت الأحمر من علوم الشيخ الأكبر"[...] حكى سبطُ ابن الجوزي عنه:أنه كان يقول: إنه يحفظ الاسم الأعظم،ويعرف الكيمياء والسيمياء بطريق التنزل،لا بطريق التكسُّب»(4)
قال ابن النجار في حقه: «وكان قد صحب الصوفية وأرباب القلوب، وسلك طريق الفقراء، وحج وجاور، وكتب في علم القوم، وفي أخبار مشايخ المغرب وزهادها، وله أشعار حسنة، وكلام
مليح، اجتمعتُ به في دمشق في رحلتي إليها، وكتبت عنه شيئًا من شعره، ونعم الشيخُ هو».(5) ومنهم شيخ الإسلام قاضي القضاة مجدُ الدين الفيروز آبادي صاحبُ "القاموس" قد ألف كتابه المسمى ب: "الاغتباط بمعالجة ابن الخياط"، وأجاب على سؤال عنه وعن مطالعة كتبه بما حاصله: «الذي أعتقده في حال المسؤول عنه، وأدين الله تعالى به: أنه كان شيخ الطريقة - حالا وعلمًا -، وإمام الحقيقة - حقيقة ورسمًا -، ومحا رسوم المعارف - فعل واسمًا -، عبابٌ لا تكدره الِّدلاء، وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء،كانت دعواته تختر السبع الطباق ، وتفتر بركاته فتملأ الآفاق ، وإني أصفه وهو يقينًا فوق ما وصفته، وناطق بما كتبته، وغالب ظني أني ما أنصفته. وأما كتبه ومصنفاته، فالبحوُر الزواخر، التي - لكثرتها وجواهرها - لا يُعرف لها أول ولا آخر، ما وضع الواضعون مثلها، وإنما خص الله بمعرفة قدِرها أهلها، ومن خواص كتبه: أن من واظب على مطالعتها والنظر فيها، وتأمل ما في مبانيها، انشرح صدره لحل المشكلت، وفك المعضلات، وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس من خصه الله بالعلوم اللدنية الربانية. وعد من مصنفاته نيِّفا وأربع مئة مصنف. وربما بلغ بهم الجهلُ إلى حد التكفير، وما ذاك إلا لقصور أفهامهم عن إدراك مقاصد أقواله وأفعاله ومعانيها، ولم تصل أيديهم - لقصرها - إلى اقتطاف مجانيها، هذا الذي نعلم ونعتقد، وندين الله تعالى به في حقه، والله سبحانه أعلم، كتبه محمد الصديقي الملتجئ إلى حرم الله، انتهى حاصله».(6)
وترجم له الصلاح الصفدي في "تاريخه" ترجمة عظيمة، وكذلك الحافظ السيوطي ألف في شأنه كتابًا سماه "تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي"، لكن رد عليه الشيخ إبراهيم بن محمد الحلبي في رسالة سماها: "تسفير الغبي في تكفير ابن عربي"، وقال الحافظ الذهبي - وهو من أعظم المنكرين وأشدهم على طائفة الصوفية -: «ما أظن محي الدين يتعمد الكذب أصلاً» وكان قاضي القضاة أحمد الحوبي يخدمه خدمة العبيد، وزوجه قاضي القضاة المالكية بنته، وترك القضاء بنظرة وقعت عليه منه .وقال صاحب "عنوان الدراية": «كان الشيخ الأكبر يُعرف بالأندلس بابن سُراقة، وقد نقم عليه أهل الديار المصرية، وسعوا في إراقة دمه، فخلصه الله تعالى على يد الشيخ أبي الحسن البجائي؛ فإنه سعى في خلاصه، وتأول كلامه، ولما وصل إليه بعد خلاصه، قال له الشيخ: كيف يجلس من حل منه اللاهوت في الناسوت؟ فقال له: يا سيدي! تلك شطحات في محل سكر، ولا عتب على سكران».(7)
قال اليافعي: «وقد مدحه طائفة؛ كالنجم الأصبهاني، والتاج ابن عطاء الله، وغيرُهما، وتوقف فيه طائفة، وطعن فيه آخرون، وما نسب إليهم - أي: المشايخ -؛ كابن عربي، وغيره، له محامل: الأول: لم تصح نسبته إليهم. الثاني: بعد الصحة يلتمس له تأويل موافق، فإن لم يوجد له تأويل في الظاهر، فله تأويل في الباطن لم نعلمه، وإنما يعرفه العارفون، الثالث: أن يكون صدو وذلك منهم في حال السكر والغيبة، والسكران سُكرًا مباحًا غيرُ مؤاخذ، ولا مكلَّف»، وله ببلاد اليمن والروم صيتٌ عظيم، وهو من عجائب الزمان، وأثنى عليه الشيخ محمد بن سعد الكشني وقال المِقريُّ في "نفح الطيب": "الشيخ الأكبر، ذو المحاسن التي تبهر، الصوفي، الفقيه المشهور، الظاهري، ثم أطنب في ترجمته والثناء عليه من أهل العلم، وذكر نبذة من أشعاره الرائقة".(8)
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وتلميذه الحافظ ابن القيم، وأمثاُلهما، فهم إنما يذبون عن الشرع المطهر، وهذا منصبهم، وليس إنكارهم عليه من قِبل الخصومة النفسانية، ولا على طريق الحسد الجاري بين أكثر أهل العلم من علماء الدنيا لكل وجهة هو موليها، ومع ذلك، لا شبهة ولا شك في أن جمعًا جما ذهبوا إلى تكفيره، وحطوا عليه بما لم يكن في حساب؛ أشرت إلى ذلك في كتابي "أبجد العلوم".(9)
ثم أضاف قائلا: «وأقول في هذا الكتاب: إن الصواب: ما ذهب إليه الشيخ أحمد السرهندي - مجدد الألف الثاني -، والشيخ الأجلُّ مسنِدُ الوقت أحمدُ وليُّ الله - المحدث الدلويُّ -، والإمام المجتهد الكبير محمد الشوكاني؛ من قبول كلامه الموافق لظاهر الكتاب والسنة، وتأويل كلامه الذي يخالف ظاهرهما، تأويله بما يُستحسن من المحامل الحسنة، وعدم التفوه فيه بما لا يليق بأهل العلم والهدى، واللهُ أعلم بسرائر الخلق وضمائرهم، وإنما الشأنُ في العلم المؤسس على الحديث والقرآن والتقوى في العمل الذي عليه مدار صحة الإسلام والإيمان والإحسان، وهذان الأمران قد كانا فيه على الوجه الأتم لا يختلف فيه اثنان، وكان من اتباع السنة، وترك التقليد، وإيثار الاجتهاد، ورفض القال والقيل، ورد الآراء بمكانٍ لا يمكن أن يُفصح عنه لسان القلم، وهذه فضيلةٌ لا يساويها فضيلة، ومنقبة لا يوازيها منقبة، وكلامه في العمل بالدليل، وطرح التقليد الضئيل فوق كلام الناس، وشغفه بذلك يفوت عن حصر البيان، فجزاه الله عنا وعن سائر المسلمين جزاء حسنًا، وأفاض علينا من أنواره، وكسانا من حلل أسراره، وسقانا من حُميا شرابه، وحشرنا في زمرة أحبابه، بجاه سيد أصفيائه، وخاتم أنبيائه - صلى الله عليه، عليهم وسلم»(10).
الهوامش
1 - أبو الطيب محمد
صديق خان الِقنوجي: التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول، وزارة
الأوقاف والشؤون الإسلمية، قطر،2007/1428، ط1.
2 - شمس
الدين أبو عبد الله محمد الذهبي: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق
الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى، 2013م، ج ،14ص 273
3 - أبو الطيب محمد
صديق خان الِقنوجي: التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول، المرجع
السابق، ج 1ص .136
4 - المرجع نفسه، ص 164-165
5 - المرجع السابق ص 165
5 - المرجع السابق ص 165
6 - المرجع السابق ص 166-167
7 - المرجع السابق، ص .167
7 - المرجع السابق، ص .167
8 - المرجع
السابق، ص .168
9 - المرجع نفسه، ص 169
10 - المرجع السابق، ص .169