وبقيَ الكلام في الأمر الثاني وهو المراد بالدعاء في الحديث والآيات التي استدلتم بها فنقول : أنتم أوردتم الحديث و الآيات مستدلين بذلك على كفر من دعى غير الله، بمعنى نادى بغيره في مهماته، ولا يكون الدليل نصًّا في الدعوى إلاّ إن ثبت أن الدعاء في الآيات يُراد به النداء، والمرجع في هذا التفاسير والآثار، قال الله تعالى : {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}[الفرقان:77]، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ" يقول : لولا إيمانكم، وفي صحيح البخاري في "مثاب الإيمان" من رواية أبي ذر باب دعاؤكم إيمانكم لقوله تعالى :" قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ"، ومعنى الدعاء في اللغة :الإيمان. انتهى.
وفي تفسير البغوي : "لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ" قيل : لولا إيمانكم، وقيل : لولا عبادتكم، وقيل : لولا دعواه إياكم إلى الإسلام، فإذا آمنتم ظهر لكم قدر، وقال قوم معناه : قُلْ مَا يَعْبَأُ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه، يعني أنه خلقكم لعبادته كما قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56] وهذا قول ابن عباس ومجاهد. انتهى.
قوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60] أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :"ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" قال : اعبدوني. وبهذا فسّره في البغوي والجلالين، قال في الجلالين : "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" أي اعبدوني أثبكم، بقرينة ما بعده. انتهى. فهو من باب إطلاق الأخص مراداً به الأعم أما للاهتمام بشأنه ولتميزه عن غيره بشيء، ما يوضح ذلك ما أخرجه ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أفْضَلُ العِبادَةِ الدُّعَاء، وقرأ :"وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ"، وما أخرجه البخاري في الأدب عن عائشة رضي الله عنها قالت : (سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : أَيَّ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ ؟ فقال : دُعَاءُ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ).
قوله تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}[الأحقاف:4] في الجلالين : "قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ" تعبدون من دون الله.
قوله عز وجل : {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:5-6] وفي الجلالين :"وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو" يعبد من دون الله، "وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ" قال : عن عبادتهم غافلون، " وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ" قال : بعبادة عابدهم.
قوله سبحانه : {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[غافر:65] في الجلالين، أي : اعبدُوه.
وقوله جلَّ شأنه : {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}[الأنعام:56] قال في الجلالين : أي : تعبدون من دون الله.
قوله تعالى : {ذَٰلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ}[غافر:12] قال البغوي في تفسيره : أي: إذا قيل لا إله إلا الله أنكرتُم وقلتُم :"أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا".
قوله تبارك وتعالى : {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[غافر:14] قال في الجلالين : اعبدوه مخلصين له الدين من الشرك.
قوله جل شأنه : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن:18] أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير وحمد الله قال : قَالَتْ الْجِنّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْف لَنَا أَنْ نَأْتِي الْمَسْجِد وَنَحْنُ نَاءُونَ عَنْكَ ؟ "أو كيف نشهد الصلاة ونحن ناءون عنك" فنزلت : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)، وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش رحمه الله قال : قالت الجن يا رسول الله إئذن لنا نشهد الصلوات في مسجدك، فأنزل الله تعالى : "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا" يقول صلُّوا لا تخالطوا الناس. انتهى. وفي تفسير البغوي عند هذه الآية قال : "كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله تعالى، وأمر الله المؤمنين أن يخلصوا الله الدعوة إذا دخلوا المساجد" وروي عن سعيد بن جبير أن المراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد الإنسان عليها وهي سبعة : الجبهة واليد والركبتان والقدمان، يقول : هذه الأعضاء التي عليها السجود مخلوقة لله تعالى فلا تسجدوا عليها لغيره".انتهى.
قوله سبحانه : {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ}[الرعد:14] قال في الجلالين : " لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ" أي كلمته وهي لا إله إلا الله "وَالَّذِينَ يَدْعُونَ" بالتاء والياء يعبدون من دونه، أي الأصنام.
فهذه تفاسير ألفاظ الدعاء الواردة في الكتاب العزيز، وعلى هذه يحمل بقية ألفاظ الدعاء الواردة في القرآن، كل مقام بما يناسبه وتدل عليه القرينة، فبطل الاستدلال بها على الدعاء الذي النزاع فيه، وهو النِّداء لطلب الحوائج.