آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل -28


الباب السابع والعشرون في الإنية


إنية الحق تحد به بما هو له، فهي إشارة إلى ظاهر الحق تعالى باعتبار شمول ظهوره لبطونه. قال الله تعالى: "إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا".
يقول: إن الهوية المشار إليها بلفظة "هو" هي عين الإنية المشار إليها بلفظة (أنا) فكانت الهوية معقولة في الإنية. وهذا معنى قولنا إن ظاهر الحق عين باطنه، وباطنه عين ظاهره، لا أنه باطن من جهة وظاهر من جهة أخرى، ألا ترى لقوله سبحانه وتعالى كيف أكد الجملة بإن فأتى بها مؤكدة، لأن كللام متردد فیه ذهن السامع، فإن التأكید مستحسن فیه كما أن كل كلام ينكره السامع يجب التأكيد فيه بخلاف ما كان لو السامع خالي الذهن، فإنه لا يحتاج فيه إلى تأكيد.
ولما كان اعتبار البطون والظهور بالوحدة يحصل فيه للعقل تردد وهو استبعاده في هذه المسألة إما تردد وإما إنكار، فلهذا أكده الحق بلفظة "أَنَا". فقال لموسى: "إنه" يعني أن الأحدية الباطنة المشار إليها بالهوية هى الإنية الظاهرة المشار إليها بلفظة "أنا"، فلا تزعم أن بينهما تغايراً أو انفصالاً أو أنفكاكاً بوجه.
ثم فسر الأمر بالالهية وهو العلم الذاتي أعني اسم الله إشارة إلى ما تقتضيه الألوهية من الجمع والشمول، لأنه لما قال إن بطونه وغيبوبته عين ظهوره وشهادته، نبه على أن ذلك من حقيقة ما هو عليه الله.

فإن الألوهية في نفسها تقتضي شمول النقيضين وجميع الضدّين بحكم الأحدية وعدم التغاير في نفس حصول المغايرة وهذه مسألة حيرة.
ثم فسَّر الجملة بقوله: " لا إله إلا أنا " ولهذا أثبت لهم لفظة الإله وتسميته لهم بهذه اللفظة من جهة ما هم عليه في الحقيقة تسمية حقيقية لا مجازية، لا كما يزعم أهل الظاهر أن الحق إنما أراد بذلك من حيث إنهم سموه آلهة، لا من حيث إنهم في أنفسهم لهم هذه التسمية. وهذا غلط منهم وافتراء على الحق، لأن هذه الأشياء كلها بل جميع ما في الوجود له من جهة ذات الله تعالى في الحقيقة، هذه التسمية تسمية حقيقية، لأن الحق سبحانه وتعالى عين الأشياء وتسميتها بالإلهية تسمية حقيقية، لا كما يزعم المقلد من أهل الحجاب أنها تسمية مجازية.
ولو كان كذلك لكان الكلام أن تلك الحجارة والكواكب والطبائع والأشياء التي تعبدونها ليست بآلهة. وإنما لا إله إلا الله أنا فاعبدوني، لكنه إنما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لهم أن تلك الآلهة مظاهر له، وأن حكم الألوهية فيهم حقيقة، وأنهم ما عبدوا في جميع ذلك إلا هو. فقال: " لا إله إلا أنا "، أي: ما ثم ما يطلق عليه اسم الإله إلا وهو أنا، فما في العالم ما يعبد غيري ولكن يعبدون غيري وأنا خلقتهم ليعبدوني ولا يكون إلا ما خلقتهم له.
قال عليه الصلاة والسلام في هذا المقام: "كل ميسر لما خلق له". أي: لعباده الحق؛ لأن الحق تعالی قال: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"56 سورة الذاريات. وقال تعالى:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44 . فنبه الحق نبيه موسى عليه السلام على أن أهل تلك الآلهة إنما عبدوا الله تعالى. ولكن من جهة ذلك المظهر.
فطلب من موسى ان يعبده في جميع المظاهر، وأنّ : "لَا إلَه إلَّا أَنَا"، أي: ما ثم إلا أنا، وكلما أطلق عليه اسم الإله فهو أنا. بعد أعلمه أن أنا عين هو المشار إلى مرتبته باسم الله. فاعبدني يا موسى من حيث هذه الإنية الجامعة لجميع المظاهر التي هي عين الهوية.
فهذا عناية منه سبحانه وتعالى بعبده موسى له لئلا یعبده من جهة دون جهة أخرى فيفوته الحق من الجهة التي لم يعبده فيها فيضل عنه.
ولو اهتدى من وجه كما ضل أهل الملل المتفرقة عن طريق الله تعالى، بخلاف ما لو عبده من حيث هذه الإنية المنبه عليها بجميع المظاهر والتجليات والشؤون والمقتضيات والكمالات المعقولة في الهوية المندرجة في الإنية المفسرة بالله المشروحة بأنه ما ثم إله إلا أنا.
فإنه تكون عبادته حينئذ كما ينبغي، وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى:{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}[الأنعام:153]. فأهل السبل المتفرقة ولو كانوا على سبيل إلى الله فقد تفرقوا ودخل عليهم الشرك والإلحاد، بخلاف المحمديين الموحدين فإنهم على صراط الله، فإذا كان العبد على صراط الله ظهر له سر قوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ عَرَفَ نَفسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ ".
فيطالب بعد هذا أن يعبده حق عبادته فهي التحقق بحقائق الأسماء والصفات، لأنه إذا عبده بتلك العبادة علم أنه عين الأشياء الظاهرة والباطنة،ويعلم إذ ذاك أنه عين المعبر عنه بموسى، فيطلب له موسى ما أعلمه الحق سبحانه وتعالى أنه يستحقه من الكمالات المقتضية للأسماء والصفات ليجد ذلك، فيعبده إذ ذاك حق عبادته.
ولا يمكن استيفاء ذلك فلا يمكن أن يعبده حق العبادة؛ لأن الله لا يتناهى، فليس لأسمائه وصفاته نهاية، فليس لحق عبادته نهاية . وفي هذا المقام قال عليه الصلاة والسلام: "ما عرفناك حق معرفتك ولا عبدناك حق عبادتك، أنت كما أثنيت على نفسك" . وقال الصديق رضي الله عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك.
و قد نظمت هذه المعنی في قولي :
يا صورةً حيَّر الألبابَ معناك .... يا دهشةً أذهلَ الاكوانَ منشاك
يا غايةَ الغايةِ القصوى وآخرَ ما ..... يلقىَ الرشيدُ ضلالاً بينَ معناك
عليك أنت كما أثنيتَ من كرم ..... ترقى الحمد عن ثانٍ وإشراك
فليس يدركُ فيكَ المرءُ بغيبته ..... حاشاكَ عن غايةٍ في المجدِ حاشاك
فبالقصور اعترافي فيك معرفتي ...... والعجز عن درك الإدراك إدراك

وقد يطلق القوم الإنية على معقول العبد لأنها إشعار بالمشاهد الحاضر وكل شهود فالهوية عينه، فأطلقوا الهوية على الغيب، وهو ذات الحق ، وبالإنية على الشهادة ، وهو معقول العبد، وهنا نكتة فافهم.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية