آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الخطاب الرّوحي في الأدب الصوفي -23

واللافت للانتباه أن هذا التصور لمفهوم الخطاب لم يبق على هذه الشاكلة، بل تغيّرت مساراته المفاهيمية والإجرائية لتغير عالم المعرفة التي جعلت من الخطاب يأخذ من الشمولية الاستغراقية ما يجعله يتعامل مع الظواهر والقضايا بشكل واسع وأشمل. ولعل من بين الحقول المعرفية التي تجسّدت فيها شمولية الخطاب وفق نطاق أوسع هو حقل السيميائيات، هذا الحقل الذي تعامل مع الخطاب وفق رؤية معرفية ومنهجية وإجرائية تجاوزت حدود البنية النسقية لتصل إلى ما يمكن أن نطلق عليه بالماوراء البنية أو الخطاب، وهي الماورائية التي جعلت الخطاب الصوفي فيما بعد يجد متنفّسه في ما يمكن أن نسميه بالعلاماتية التخاطبية التي تتماشى إلى حد بعيد مع مقتضيات السياق على حسب القرائن بضربيها: اللفظي والمعنوي.

ونحن إذ نشير إلى هذا الحقل السيميائي الذي اهتم بواقع الخطاب من منظور علاماتي، لأنّنا نعلم في حدود اطلاعنا في مجال الخطاب الصوفي أنه يمثل تقاطعا معرفيا وإجرائيا مع شمولية التصور الصوفي لعالم الخطاب. وعليه وجدنا المشتغلين في مجال حقل السيميائيات وبالضبط ما سمِّي لديهم بالسيميائيات التواصلية(1) يتعاملون مع الخطاب من منظور السياق العلاماتي وفق مكونات وعلاقات تخاطبية لا تخرج عن أربع جهات أساسية تجعل الخطاب يتنفس تنفسا سياقيا ومقاميا على حسب شمولية الاستعمال بّعناه الواسع، وهي (2):حقل الخطاب بمعنى تلكم العلاقة القائمة بين النص والموضوع.
  • نوع الخطاب أي تلكم العلاقة بين المخاطب والمتلقي. اللغة المكتوبة والمنطوقة.
  • فحوى الخطاب أي تلكم العلاقة بين المخاطب والمتلقي في مقامات التفاعل الاجتماعي.
  • البحث النقدي وهي العلاقة التي تتعامل مع عالم الأشياء وفق مرجعية معرفية ومنهجية همُّها الوحيد هو تبيان أهم ما تقوم عليه الظواهر حتى يتسنى لفعل النقد أن يقوم بدوره.
مثل هذا التّصور في تحديد الخطاب جعل من المشتغلين في مجال الدرس البلاغي يحددونه على أنَّه"... مجموعة من الجمل منطوقة كانت أو مكتوبة، في حالة اشتغال أفقي-أي نمط أو تركيب- على موضوع محدَّد. ويسعى التلفظ به إلى التأثير في المتلقي بواسطة فرضيات ورؤى وأحاسيس، مما يتطلب مبدئيا ديمومة في إنتاجه وتلقيه وتماسكا داخليا وتدليل مقنعا وصورا تعبيرية ولغة واضحة"'3) .وهذا تصور لربّما يختلط فيه مفهوم الخطاب مع مفهوم النص؛ بحكم أنَّ هناك تداخل بين مفهوم النص مع مفهوم الأثر الأدبي على حد تعبير رولان بارث(Barth)
[4] والملاحظ في شأن تعدد واقع الخطاب أن له وجهين إذا ما أردنا أن نتعامل معه وفق رؤية حداثية تتماشى مع الطَّرح اللغوي العربي القديم: أحدهما حواري يعطي للطرف الآخر المتلقي المستمع حقه من حيث الوجود والكينونة، وهذه ميزة نجدها مجسدة بوضوح في البلاغة القديمة على اختلاف أصحابها. والثانية نفسية أحادية لا تعرف إلا صاحب الخطاب نفسه وحسب، وهذا ما جعل من الناقد غربي باختي (Bakhtine) يحدد معناه على أنه"... لا يعرف الخطاب سوى نفسه-سياقه- وسوى موضوعه وتعبيره المباشر، ولغته الواحدة والوحيدة بالنسبة لذلك الفكر كل خطاب آخر موضوع خارج سياقه الخاص، ما هو إلا كلام محايد لا يرجع لأي أحد، فهو مجرد إمكان بالقوة".[5]

ما يمكن قوله فيما حاولنا أن نشير إليه بشكل مقتضب في شأن مفهوم الخطاب، أن غالبية المفاهيم والمصطلحات التي تناولها المشتغلون في مجال تحليل الخطاب قد عملت على تطوير هذا الحقل المعرفي المتميز، ووثقت تلكم الصلة المعرفية والإجرائية بين تحليل الخطاب والحقول المعرفية الأخرى من مثل: اللسانيات وعلم النفس اللغوي والاجتماعي والسيميائيات وفلسفة اللغة وهلم جرا؛ فأصبح حينها الخطاب تمظهرا معرفيا وفلسفيا وفكريا ولغويا كبيرا تحدوه الشمولية الاستغراقية من كل مكان.

غير أنه من باب أولى أن ننبه إلى قضية مهمة تتعلق فيما أشرنا إليه قبل قليل، والمتمثلة في كون أن الخطاب باتصافه بهذه الشمولية الاستغراقية على اختلاف السياقات والمقامات، جعلنا ننتبه إلى أن ما يبرر هذا النوع من العطاء هو ما ألفينا الخطاب الصوفي يحتوي على هذه الشمولية الاستغراقية في تعامله لعالم الظواهر التي كان يغلب عليها الطابع الروحاني على حسب ما يقتضيه حقل التصوف تصورا ومنهجا ومقصدا.

لكن الذي يه همنا نحن في هذه الشمولية في شأن الخطاب، أن الصوفي وجد في عالم شمولية الخطاب ما يعبر عما هو قائم في الروح والقلب والعقل وفق لغة شارحة (Meta-langage)
[6]،استطاع الخطاب الصوفي أن يجعل من هذه اللغة الشارحة أو الواصفة تنقاد لعالم الروح أو الباطن الذي يعد لدى الصوفي الحجر الأساس في تعامله مع عالم المعرفة من بابها الواسع.

وما دام الخطاب الصوفي يحتوي على شمولية استغراقية في ذات الخطاب وخارجه بما تستدعيه التعالقات التّخاطبية التي يقيمها الصوفي على حسب ما يقتضيه المقام الحالي بين الباث والمتلقي؛ فإنه لا مانع من أن نشير إلى أهم المحددات للخطاب الصوفي كخطاب متصف بصفة الشمولية، وكحقيقة معرفية ومنهجية سار عليها الخطاب الصوفي في تعامله مع القضايا والحقائق. 

** ** **
1 - ينظر خليفة بوجادي: محاضرات في علم الدلالة مع نصوص وتطبيقات. ط 1بيت الحكمة2009. ص:18-21. 
2- ينظر بالتفصيل جوليا كريستيفا: علم النص، ترجمة: فريد الزاهي. دار توبقال. المغرب،1997. ص :90-91.
3- رشيد بنحدو: النص الأدبي من الإنتاج إلى التلقي. أطروحة مرقونة بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس، تحت إشراف حسن المنيعي، ،1991 ص: 249وما بعدها.
4 - ينظر بالتفصيل الممل رولان بارث : درس في السيميولوجيا. ترجمة: عبد السلام بن عبد العالي. ط 2، دار توبقال1986 ص: 59 وما بعدها. 
5 - - ميخائيل باختين: الخطاب الروائي. ترجمة: محمد برادة. ط 1،دار الأمان، 1984، ص:43.6 - يقول عبد الملك مرتاض في هذا الشأن" منذ كاتن الإبداع ، كان الرأي حوله، ومنذ كان الإبداع الشعري خصوصا كان النقد له، أي منذ كان فن القول، أو العمل الفني باللغة(le langage)التي تستحيل إلى بناء أسلوبي معين، كان حولها اللغة الواصفة، أو لغة اللغة
(le meta langage)
" عبد الملك مرتاض: في نظرية النقد؛ متابعة لأهم المدارس النقدية المعاصرة ورصد لنظرياتها. دار هومة، الجزائر. 2005 ص:49.
ولقد أشار رولان بارت إلى تجسيد معالم اللغة الواصفة حين رأى أن اللساني حي تضيق به السبل في التحكم في عالم التراكيب الجملية؛ فإنه يلتجئ مباشرة إلى استخدام نموذجي وصفي يتعلق باللغة الواصفة لتجاوز هذا النوع من الضيق. يقول في هذا المقام" عندما يجد اللساني
نفسه أمام استحالة السيطرة على كل الجمل في لغة معينة، فإنه يقبل بوضع نموذج افتراضي للوصف؛ يتيح له انطلاقا من ذلك تفسر الكيفية التي تولدت بها الجمل اللامتناهية من تلك اللغة" رولان بارت: النقد والحقيقة. ترجمة وتقديم. إبراهيم الخطيب. الشركة المغربية للناشرين
المتحدين. ط 1،الدار البيضاء، المغرب.ص:1995.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية