الطالب: هشام نوزري باحث في
الإسلاميات والتصوف
|
تعتبر المحبة أحد الأسس القيمة التي بنى عليها السادة الصوفية طريقهم في التعرف على الله تعالى، حيث ارتبط مفهوم المحبة في الفكر العربي الإسلامي بالصوفية، مع العلم أن المحبة لم تكن إبداعا صوفيا محضا، ذلك أن الحب بمختلف أشكاله وأنواعه قديم قدم التاريخ، فهو يخفت تارة ويبرز تارة، تبعا للحالة الثقافية والسياسية والاجتماعية السائدة حسب كل مجتمع.
ومنذ بدايات بزوغ الفكر الصوفي أفرد الصوفيون لأنفسهم مساحات واسعة من كتاباتهم وتآليفهم؛ وذلك تمحيصا لمفهوم المحبة باعتباره سمواً روحياُ جميلا، وحالة صفاء ونقاء فكري لايصل إليها المرء إلا بالتمرس الطويل والتقشف الجزيل في ماديات الحياة الزائلة، هذه المحبة التي تكون في النفس سموا أخلاقيا وآخر روحيا يرتقي به العبد إلى درجات الخضوع لربه، فكل مؤمن محب لله، ولكن محبة كل مؤمن على قدر إيمانه، والله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين بشدة الحب له، فقال:{وَالذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، ففي قوله:(أشد) دليل على تفاوتهم في المحبة؛ لأن المعنى أشد أشد. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحبة لله في ماشرعه من الأحكام، فقال:"أحبوا الله لما أسدى عليكم من نعمه؛ وأحبوني لحب الله". أشد توكيدا.
فدل ذلك على فرض الحب لله، وأن تفاضل المؤمنين في نهايته، فالمحبوب لله على مراتب من المحبة، بعضها أعلا من بعض، فأشدهم لله حباًّ أحسنهم تخلقا بأخلاقه، وأعرفهم بمعاني صفاته، وأشدهم حبا لرسول الله، إذا كان حبيب الحبيب حبيا، وأتبعهم وأشبههم هديا بشمائله. لأن حقيقة المحبة موافقة الحبيب في المشهد والمغيب .
وهذه المحبة عند الصوفية باعتبارها الحب الإلهي الذي هو أجل أنواع الحب كونه إمتثالا لأدبيات وقيم الدين الإسلامي، أخذت منحى إنسانيا يتجسد في قول الإمام الصوفي الشهير "محي الدين ابن عربي" الملقب بالشيخ الأكبر، حيث يقول في المعنى:
لَقد كنت قبل اليوم أُنْكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل صــــورة فـمـرعـىً لـغـزلان، وديــرُ لـرهـبـان
وبيتُ لأوثانٍ، وكعبةُ طائــــــــــــفٍ وألواح توراةٍ، ومـصحـف قرأن
أدين بدين الحب أني توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيمانــــــــي.
وبهذه الرؤية يتجلى مفهوم المحبة بصورة شمولية متقدمة مقارة بآنه وزمانه، لأنها تعتبر بشكل عام خبرة لدى الإنسان من أهم الخبرات الخلقية والروحية ومن أكثرها خطرا في حياة البشر، ولا شك أنها فضيلة إيجابية، تبعث إحساسا روحيا وبُعْدًا جماليا من أجل إحياء وبناء نية وتوجه الإنسان إلى معرفة خالقه معرفة حقيقة لا مرية فيها. وعليه فالحب أو المحبة نية وتوجه سلوكي بالدرجة الأولى يُحَوِّل الإهتمام والتركيز على أفعال النفس والإحاطة بها من كافة جوانبها، لأن نفس الإنسان تدعوه دائما إلى الخمول وارتكاب الآفات التي تجعل علة قلبه ظلمة وغشاوة، لايستطيع من خلالها المداومة على هذه المحبة والعشق الإلهي.
وسئل الجنيد، رحمه الله:"ما السبيل إلى محبة الله؟ فقال: ليس من أحد يؤمن بالله إلا وهو يحب الله ورسوله، ولكن محبة كل على قدر إيمانه. قيل: في مايتزايد المؤمنون في محبته، وما أوائلها، وما نهايتها؟ فقال: ذكر القلب، فنعم الله ولطفه وبره وأياديه وفضله وستره ونعمه المتقدمة، التي بدايتها من غير عمل استحققناها، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"جُبِلت القلوب إلى حبِّ من أحسن إليها"، وذلك أن علامات القرب الانقطاع عن كل شيء، سوى الله، وأن الحقائق أبت أن تدع في القلوب مقرا للتأويل من أجل الوصول إلى حقيقة المحبة التي تكون بين العبد ومولاه.