آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل -29



الباب الثامن والعشرون : في الأزل


الأزل عبارة عن معقول القبلية المحكوم بها لله تعالى من حيث ما يقتضيه في كماله، لا من حیث إنه تقدم على الحادثات بزمان متطاول العهد، فعبر عن ذلك بالأزل كما يسبق ذلك إلى فهم من ليس له معرفة بالله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وقد بينا بطلانه فيما سبق من هذا الكتاب.

فإنه موجود الآن كما كان موجوداً قبل وجودنا، لم يتغير عن أزليته ولم يزل أزلياً في أبد الآباد، وسيأتي بيان الأبد في الباب التالي إن شاء الله تعالى.

هذا حكم الأزل في حق الله تعالى، وأما الوجود الحادث فله أزل مغاير لأزل غيره من الحادثات، فأزل العبد غير أزل النبات، فإنه قبله إذ لا وجود للنبات إلا بعد وجود المعدن، فأوليته النبات كانت في حال وجود المعدن، وأزلية المعدن في حال وجود الجوهر، وأزلية الجوهر في حال وجود الطبائع، وأزلية الطبائع في حالة وجود العناصر، وأزلية العناصر في حالة وجود الهيولي ، وأزلية الهيولي في حالة وجود الهباء، وأزلية الهباء في حالة وجود العليين، كالقلم الأعلى والعقل والمَلَك المُسمى بالروح وأمثال ذلك، وهم وجميع العالم فإن لهم كلية الحضرة، وهو معنى قوله للشيء {كُنْ فيكُونُ}[الأنعام:73]
وأما الأزل المُطلق فما يستحقه إلا الله لنفسه، ليس لشيء من المخلوقات فيه وجود، لا حُكماَ ولا عَيناً، وقول القائل : كنا في الأزل عند الله، فاعلم إنما هو أزلية الخلق، وإلا فهم غير موجودين في أزلية الحق، فأزل الحق أزل الآزال، وهو له حكم ذاتي استحقه لكماله.

واعلم أن الأزل لا يوصف بالوجود ولا بالعدم، فكونه لا يوصف بالوجود لأنه أمر حكمي لا عيني وجودي، وكونه لا يتصف بالعدم لكونه قبل النسبة والحكم والعدم المحض فلا يقبل نسبة ولا حكماً، ولهذا استحبَّ حكمه،  فأزل الحق إبده ، وأبده أزله.

واعلم أن أزل الحق الذي هو لنفسه لا يوجد فيه الخلق لا حكماً ولا عيناً، لأنه عبارة عن حكم القبلية لله تعالى وحده، فلا يكون حكما للخلق في قبلية الحق وجود إلا من حيث التعيين، لا من حيث العلمي، ولا من حيث التعيين الوجودي لأنه لو حكم له بالوجود العلمي لزم من ذلك أن يكون الخلق موجودا بوجود الحق ، وقد نبه الحق تعالى على ذلك بقوله : {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}[الانسان:1]، واتفقت العلماء أن (هل) في هذا الموضوع بمعنى : قد أتى على الإنسان حين من الدهر، والدهر هو الله، والحين تجلِّ من تجلياته "لم يكن شيئاً" ، يعني أن الإنسان لم يكن شيئاً "مذكوراً"، ولا وجود له في ذلك التجلي، لا من حيث الوجود العيني ولا من حیث العلم، لأنه لم يكن مذكوراً، فلم يكن معلوماً.

وهذا التجلّي هو أزل الحق الذي لنفسه، وما ورد من أن الله قال في الأزل للأرواح: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ}[الأعراف:172]. فإن ذلك الأزل من أزل المخلوقات. ألا تراه يقول: أخرجهم مثل الذر من ظهر آدم علیه السلام ، وتلك عبارة عن حال تعين المعلومات في الوجود العلمي، فتشبههم بالذرّ للطفهم وغموضهم، وعنوان قوله لهم: "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" هو جعل الاستعداد الإلهي فيهم، وقولهم : "بلى" هو عنوان القابلية التي بها قبلوا أن يكونوا مظهرا، فما سألهم الحق سبحانه عن كونه ربهم إلاّ وقد علم ما جعل فيهم من الاستعداد وفطرهم عليه من القابلية أنهم يثبتون ربوبيته ولا ينكرونه، فقالوا: "بلى"، فشهد لهم بها في كتابه ليشهد لهم في القيامة أنهم مؤمنون بربوبيته موحدون له، لأنّا شهداء على الناس، فلا يقبل منهم يومئذ شهادة الأملاك بكفرهم وجحدهم، لأنهم لم يحصل لهم هذا الاطلاع الإلهي بباطن ما كانوا یظنون أنه كفر، فشهادتهم عن غیر تحقيق وشهادتنا عن تحقيق لأنه أنبأنا بذلك، فحجتنا البالغة، إنها حجة الله لخلقه بالسعادة، وحجة الأملاك مَدحضَة لأنهم حكموا بالظاهر، وليس للأملاك إلّا الظاهر، ألا تراهم في قصة آدم كيف حكموا عليه بأنه يفسد في الأرض ادعاء أنهم مصلحون لما علموا من تسبيحهم و تقديسهم، وفاتهم باطن الأمر الذي هو عليه آدم من الحقائق الرحمانية والصفات الربانية، فلما ظهرت صفات الحق على آدم و أنبأهم بأسمائهم، لأن الصفة العلمية الإلهية محيطة بهم وبغيرهم قالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}[البقرة:32] على التقييد بخلاف آدم، فإنه يعلم الأشياء على الإطلاق بعلم إلهي، لأنه المراد بالعلم الإلهي، وصفات الحق صفاته وذات الحق ذاته. فافهم والله المستعان.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية