بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على سيدنا محمد اشرف الأنبياء والمرسلين وعلى اله وصحبه وسلم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيْمُ، أَنْتَ رَبِّي وَعِلْمُكَ حَسْبِي فَنِعمَ الرَبُّ رَبّي ونِعمَ الْحَسبُ حَسْبِي، تَنصُرُ مَن تَشاءُ وَأَنْتَ العَزيزُ الرَّحيم ).
افتتح الشيخ الحزب بهذه الجملة لأنها
تشعر بعظمة الربوبية، وذلة العبودية، والاكتفاء بعلمه، والرجوع إليه بكل حال،
والتفويض له في الأمر موافقا للغرض أو مخالفا له، مع الثناء عليه بكل بكمال الوصف
الذاتي أولا، والفعلي آخرا، لأن كمال التوجه إنما يكون بذلك ، فكل توجه لا يشعر
صاحبه بعظمة الربوبية، وذلة العبودية فيه، فهو تلاعب ونحوه ، وبذلك وقع الجواب عن
عدم انتفاع كثير من الناس بأدعية وأذكار صحيحة الوعد بالإجابة، مجزئة عند أهل
الصدق والإخلاص .
والاكتفاء بعلمه تعالى، مع حسن الظن
به، والتفويض إليه في الإجابة والعطاء من آداب الدعاء، وعمدة شأنه، حتى قال الشيخ
محمد عبد العزيز المهدوي رضي الله عنه : "مَن لم يكن في دعائه تاركا
لاختياره، راضيا باختيار الحق له فهو مستدرج، وهو ممن قيل له : اقض حاجته فإني أكره
أن أسمع صوته".
فإن كان مع اختيار الحق تعالى ، لا مع
اختياره لنفسه، كان مجابا، وإن لم يعط، والأعمال بخواتيمها . ثم الذي تضمنته
الجملة من الأسماء عشرة، سبعة ظاهرة، وثلاثة باطنة، أي تفهم فهما ولم يصرح بها
تصريحا كالسبعة الظاهرة. فأما السبعة الظاهرة فهي اسمه : العلي،
العظيم، الحليم، العليم، الرب، العزيز، الرحيم . وأما الثلاثة الباطنة فهي اسمه :
الكافي، النصير، الفعال لما يريد .
معانيها :
فالعلي : هو الذي يصغر عند ذكر وصفه كل
شيء سواه .
والعظيم : هو الذي لا نسبة لاحد معه في
علو شأنه، وجلالة قدره، ذاتا، وصفة، واسماء، وأفعالا.
ثم، هو العلي في عظمته فوق كل عظمة
لغيره، والعظيم في علوه عن كل علو لا يليق بذاته .
والإسمان متداخلان،يسري معنى كل منهما
في الآخر بارتفاع الوصف إلى غاية ما يراد به .
والحليم : هو الذي لا يدعوه الغضب
لتعجيل العقوبة على من عصاه، فيمهل العاصي وإن كان لا يهمله، ثم إذا ترك العقوبة
فهو غفور رحيم .
والعليم : هو المحيط حلمه بالكائنات
وغيرها، إحاطة لا يدخلها قصور، ولا شرط ، فهو يعلم ذنوب عباده ولايعاجلهم بالعقوبة
حلما منه، وذلك من عظمته وعلو شانه الذي ظهر به البحر، وجرى به التصرف فيه .
وكان هذا من باب التعريض بذكر الأسماء
المناسبة للحالة، لأن البحر مخلوق عظيم، علي في شأنه، وقد ظهر فيه من عظمة الله
وعلو شأنه ما لله للخلق، وسخره لهم، حتى أكلوا منه لحما طريا، واستخرجوا منه حلية
يلبسونها، وأجرى فيه الفلك بما شاء من قدرته، فلم يبق لعلوه ولا لعظمته نسبة إلا
الدلالة على عظمة مسخره وعلو شأنه .ثم إن البحر يركبه العاصي والمطيع، فلم
يسلطه عليهم حلما منه ولطفا، مع علمه بجرمهم فيه، بل إذا تأملت وجدت القائمين فيه،
والمترددين له اشد الناس عصيانا، وأكثرهم تمردا، حتى يتحقق أن السير فيه بفضل الله
ورحمته، وإن الأسباب لا أثر لها في البحر .
فالبحر دال على عظمة الله بذاته
وصفاته، وعلى علمه بأفعال الخلق فيه، وكل ذلك من علو شأنه تعالى في ذاته، وصفاته،
وأفعاله، إذ لا أعظم من حلم مع علم، ولا أقوى من عظمة في علو شأن .
وقد قيل إن هذه الجملة هي اسم الله
الأعظم، ورجحه ابن عبد البر، وهو مقتضى الأصل في الأولين، ومرجع الفروع في الآخرين .
وقيل لبعض الناس في المنام : كل اسم
سرى معناه في الأسماء فهو الأعظم، وذلك في الأسماء الحسنى بسبعة أو ثمانية منها
العظيم، وليس منها الرحمن .
قلت : وعلى ذلك الأحاديث، إذ لا يوجد
ما جاء فيه أنه الاسم الأعظم إلا كذلك، مع اختلاف الألفاظ وتعدد الأسماء والأوصاف،
مرة بالبسط والجمع، ومرة بالأفراد والتركيب، فافهم .
فاسمه تعالى : ( العلي العظيم ) سار بيَن
في اسمه ( العليم ) و ( الحليم ) لأنه علا في حلمه وعلمه، وعظيم في ذلك كله، ولأجل
سريانها في كل معنى تعلق بالذات والصفات والأفعال، جعلا خاتمة آية الكرسي التي
افتتحها بأسماء الذات، ثم جوامع الصفات، ثم ما يجري في الأفعال وتجري به، فافهم .
ثم من علم أنه العلي العظيم لزم
التعظيم والإجلال قلبه، وانطبعت به روحه، وانبسط به سره، فلم يبق له عن نفسه
إخبار، ولا يقر له مع غير الله قرار، ومن علم أنه عليم ، حليم به، راجيا إحسانه،
ومحسنا الظن به في جميع الأحوال فلم يبقى للبحر ولا لغيره في عينه نسبة، شغفا
بمولاه، وفناء فيه دون ما سواه فيقول بكل جارحة فيه :
أنت ربي، الذي لا رب غيره ... ولا يصح
, أن يكون لي رب غيره
لكمال وصفه في عظمته، وعلو شأنه، فلا
أبالي بغيره، ولا أتوجه لسواه، ولا أرجو النفع وأخشى الضر من غيره .
والرب : المالك الذي يرعى عباده
بإحسانه فلا ملك غيره، ولا مدبر سواه .
فكلمة الشيخ - أنت ربي - تبر من التعلق
بسواه .
وقول الشيخ : (علمك حسبي ) : اكتفاء
بعلم الله، ومن لازم ذلك التفويض إليه فيما هو به، والنظر لما عنده بلا سبب من
نفسه .
ومعنى ( حسبي ) : يكفيني فيما أنا فيه،
وهو في هذا الكلام متأسيا بخليل الله - إبراهيم عليه السلام - حين زُج به في
المنجنيق، فتلقاه جبريل قائلا : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا، وأما إلى ربي
فبلى، قال : إذن فاسأله ؟ قال : " حسبي من سؤالي علمه بحالي " .
وهو طريق العارفين عند تعذر الأسباب،
أعني الرجوع للعلم بالاستسلام، وترك الطلب، بخلاف حال قبول المحل للأسباب , فإن
العمل بها مطلوب، واعتبر هذا بأمر أم موسى بإلقائه في البحر، وإجابة الملائكة للوط
عليه السلام، بقولها : (إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) عند قوله لقومه : (لَوْأَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) . فهو صلوات الله عليه
وسلامه، أراد مقابلتهم بالإسبال لو وجدها، فأجيب بنفوذ الأمر، وإنه لا محل لها،
ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :
(يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى
ركن شديد)، على معنى أن ترحمه عليه إنما كان لظنه أن الأسباب بقى لها محل، لا يفهمه
من لا حقيقة عنده، مما يؤدي إلى الضلال ونحوه، فافهم.