آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كلمة توجيهية لشيخ الطريقة القادرية البودشيشية بمناسبة المولد النبوي الشريف/2019

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، البشير النذي،ر السراج المنير، الصادق الأمين، الهادي إلى الصراط المستقيم وعلى آله وصحبه ما لاح بارق، ودر شارق، ووقب غاسق، وانهمر وادق.

أيها الحضور المهيج البهيج، معشر الذاكرين والذاكرات :

في غِمار هذه اللحظة المباركة الميمونة ،والأمسية القُدسية العطرة، والذكرى المُنورة الخالدة، نستذكر ميلاد خير الورى وأشرف من مشت أقدامه الثرى، سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين القائل : «إنَّ لي أسْماءً، أنا مُحَمَّدٌ، وأنا أحْمَدُ، وأنا الماحِي الذي يَمْحُو اللَّهُ بيَ الكُفْرَ، وأنا الحاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ علَى قَدَمَيَّ، وأنا العاقِبُ الذي ليسَ بَعْدَهُ أحَدٌ»[1]. وكان صلى الله عليه وسلم قائدا رائدا، وهو الذي أزال غياهب الغمة عن هذه الأمة وما يعانوه أفرادها من همٍّ وغَمٍّ وكَربٍ، وابتعادٍ عن جادَّة الحقِّ والصواب ،الحبيب المكنون محبته في سائر القلوب، سيد السادات، الكريم الأكرم، الجميل الأجمل، العظيم الأعظم، الذي أودعَ فينا سيرته النيِّرة، وتوجيهاتِه الرَّشيدة، تراثًا أخلاقيا لو أننا عمِلنَا به لأصبَحنا من أعتى وأقوى الأُمَم، لكن ويا للأسف الشديد، رغم كثرتنا وعددنا، أصبحنا غثاءً كغثاء السيل، مختلفين متدابرين، متنازعين هاوين إلى أسفل سافلين.

معشر المريدين والمريدات :

فإذا أمعنَّا النظر ودقَّقناه، وجدنا أن السبب في ذلك كلّه، هو أننا نسينا الله فأنسانَا أنفُسَنا، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}وابتعادُنا كذلك عن تعاليم ديننا الحنيف، وهديِ نبينا، وما تعجُّ به سيرته العَطِرَة من أسرار وأنوار وأقوال وأفعال وأحوال سديدةً ورشيدَة، لذا فمِن أوجَبِ الواجبات وآكدها، هو الرجوع توًّا إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم، مصداقاً لقوله تعالى : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[2] حتى نكون إخوانًا على فعل الخير أعونا، نأمر بالمعروف وننهى عن المُنكر، امتثالًا لقوله تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[3]ساعين إلى مساعدة المساكين والمُحتاجين والمُعْوِزين، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم : (ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)[4] (مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ)[5]. 

كما نجدُ أن ما آلت إليه حالة المسلمين اليوم، سببه هو محبَّة الدنيا وزخارفها وجمع الأموال بالباطل، ناسين حكمة لبيد الخالدة : 

ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللّهُ باطِلُ     وكلُّ نعيمٍ لا مَحالة َ زائِلُ

لذا نُوجِّه اهتمام إخواننا مريدي هذه الطريقة المُباركة، إلى فعل الخير ومحبة جميع الخلق،  والابتعاد كل البعد عن الحرام، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان عيشه عَيشَ المساكين، حتى قال صلى الله عليه وسلم في قولته الشهيرة : «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ»[6] لِذَا فاشهدُوا عليَّ معشر الذاكرين والذاكرات، أنَّني مِسكينٌ، أُحِبُّ المَساكِينَ، واختَرتُ لنفسي أن أَرْتَضِيَ جِلْبَابَ المَسكَنة، الذي لا يَفْنَى ولا يَبْلَى، ولا يَحُول ولا يَزُول، وهذا كانَ جِبِلِّيَاً في طَبعي منذُ الصِّغَر إلى الكِبَر لأن مقام المسكنة هو مِن أعلى المقامات، لذا أنصحكم أن تكونوا مساكين في أحوالكم أغنياء بربِّكُم، اسعوا لتكونوا أغنياء في الظاهر، مساكين في الباطن، اعمَلوا بجدٍّ من أجل الكَسْبِ الحلال، وابتعدوا عن الكَسبِ الحرام ،كما أُصيكُمْ كذلك بتَقوى الله، وأن تكونوا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وأكثِرُوا من ذكر الله امتثالًا لقوله تعالى : {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[7]{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[8]وقوله صلى الله عليه وسلم :«أَلاَ إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالاَهُ وَعَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا»[9] فالذاكرُ حَيٌّ، والغافِلُ مَيِّت، كما وَرَدَ في بيْتَينِ نَفيسَينِ لأَحدِ العَارفينَ : 

الذكر باب عظيم أنتَ دَاخِلهُ     فَاجْعَلُ لِمَنزله الأنفاسَ حُرّاسا
والقلبُ أفضلُ بيتٍ فيه تَذْكُرُهُ   فَكُنْ لَهُ في جَنَانِ القَلْبِ غَرَّاسا

إنَّ الله طَيِّب، ولا يَقبلُ إلاّ طَيِّبا، ومن أراد وُلُوجَ الحضرة الربانيّة، يجب أن يحرسَ قلبه من دخول قلبه الشوائب والمحرَّمات، ويتطهَّرَ ويتنظَّف، لأن الله نظيف ولا يقبل إلا كلَّ نظيف، وفي هذا الصدد يقول صلى الله عليه وسلم : «تنظَّفوا بكلِّ ما استطعتُم ، فإنَّ اللهَ تعالى بنى الإسلامَ على النَّظافةِ ، و لن يدخُلَ الجنَّةَ إلا كلُّ نظيفٍ»[10] فسِرُّ الله غالٍ ونفيس، لذا يجب على الفقير أن يَحرِسَ عليه كلَّ الحِرص، وذلك بالمُحافظة على الشريعة والاجتهاد في ذكره تعالى.

معشر الذاكرين والذاكرات الأعزاء :

اعلموا أنَّ أهل الله قد أجمعوا على أن الذكر فرض عين على كلِّ مسلم ومسلمة، لأن الإنسان مُعرَّضٌ في حياته للخطأ، وقد يقترفُ ذنوباً صغيرة أو كبيرة حين مزاولته لأعماله اليومية، فبماذا يا تُرَى نُزيل من قلوبنا آثار هذه الذنوب، فالوسيلة الوحيدة التي بها تتِمُّ طهارَة القلوب هو الذكر، فالذكر بمثابة صابون تُنظَّف به القلوب، وفي هذا الصدد قال الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ جِلَاءً، وَإِنَّ جِلَاءَ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»[11].

اسمحوا لي أيها الأعزاء الذاكرين والذاكرات على الإطالة في هذا الكلام عن الذكر لأنه ركنٌ هامٌّ، وهامٌّ جدًّا، بالنسبة لمن أراد السَّيْرَ ووجه الله، وكما قيل : "مَهْرُنَا غَالٍ لِمَنْ يَخْطُبُنَا".

ومن أراد بلوغ أعلى وأغلى الدرجات في طريق الله، فلا بدَّ أنْ يُؤدِّيَ الثَّمَن "وَإذَا شِئْتَ أَدِّ الثَّمَنَا" كما قيل.

لذا أوصيكم، وأوصي نفسي أيها الإخوة الأعزاء، من الإكثار من ذكر الله تعالى وحمده وشكره شُكراً كثيراً، على ما مَنَّ اللهُ بهِ عَلينا من وجودِ هذا السرِّ الفيَّاض في هذه الطريقة المباركة، وفي هذا البَلَدِ الأمين مَغرِبِنا الحبيب..

كما أدعوكُم أيُّها الأحباب، إلى نَشْرِ هذا السرِّ بين الأهلِ والأصحاب، والأقاربِ والطُّلاب، فكلُّ مريدٍ ومُريدةٍ يجبُ عليه أن يأتيَ بعشرة أفراد من معارفه يتذوَّقون من مَعينِ وَرَحيقِ هذا السرِّ النبويِّ الجليل، فلا يعرفُ حلاوَةَ هذا السرّ الغالي النَّفيس إلاّ مَن ذَاقَهُ، وقد قيل : "مَنْ ذَاقَ عَرَف"، وقيل كذلك عند أهل الله : "مَنْ عَرَفَ العَارِف فَهُوَ عَارِفٌ" أي سيصير عارفاً بمشيئة الله تعالى، فهذا السر لا يُعرف بالفكر إنَّما يُعرف بالذكر، السعيد كلّ السعيد، مَن وُفِّقَ ودخلَ هذه الطريقة، وذكرَ الله فيها ذكراً كثيراً، فهذا السرُّ الموجود في هذه الطريقة يُعتبَرُ علاجاً لجميع الأمراض القلبية والنفسيّة، فهذا كلامٌ مُجرَّبٌ صحيح، وقد قيل : "إِنَّ الرَّائِدَ لا يَكْذِبُ أَهْلَهُ"، وفي هذا الصدد قد سمعتُ من جدِّي مِراراً وتِكراراً مُخاطِباً الذاكرين قائلاً لهم : "لكُمْ الحُريَّة المُطلَقَة، سيروا وابحثوا في أيِّ زاويّة من الزوايا الموجودة في الداخلِ والخارج، التي فيها سرٌّ وافرٌ أكثَر ممَّا هو في طريقتِنا هاته، فإذا وجدتُم هذه الزاوية، فأنا كذلك سأذهبُ معكم بنفسي لآخد عن شيخ هذه الطريقة" وبالفعل، فإنَّ من بين هولاء المُريدين مَن ذهبَ للبحثِ فلم يجِد، وَقَفَلَ راجِعاً، وما زال مَن بَقِيَ منهم حَيًّا، يذكرُ اللهَ في هذه الطريقة، سائلاً لهم وللجميع الفوز والنجاة والثبات، "وحاشا أن يخيبَ حاشَا مَن أتَى بصِدقِ النيّة" ولذلك قيل : " مَنْ أُعْطِيَ لهُ الذِّكر، أُعْطِيَ لَهُ مَنْشُورَ الوِلَايَة"، وقيل كذلك : "بابُ الذِّكر إذا قُرِعَ انْفَتَح" باب الكريم إذا قُرِع انْفَتح، قال تعالى : {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}.[12]

إن هذه الطريقة انتشرت وستنتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا ما بشَّر به الوالد، العارف بالله الشيخ سيدي الحاج حمزة قدس الله بقوله الشهير : "هذه الطريقة، طريقةٌ كونيَّة، وستظهَرُ فيها العجائب، وهي دواء للبشريّة جمعاء" وفعلاً، ها نحنُ الآن نجدُها في أوروبا، وإفريقيا، وآسيا، وأمريكا وجميع بُلدان العالم.

إنَّ دعوتَنا لنشرِ هذه الطريقة، ليسَت من أجلِ الشُّهرَةِ وَالظُّهور، فأهلُ اللهِ لا يُحِبُّون الظُّهور، بَل هي دعوةٌ من أجلِ نَشرِ هذا السرُّ المُحمديّ الموجودِ فيها، وفي هذا الصّدد قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ: «ذِكْرُ النَّاسِ دَاءٌ، وَذِكْرُ اللهِ دَوَاءٌ»، أجَل، إنَّ هذا السرّ دواء، دواءٌ ناجِعٌ لاستأصال الأمراض القلبية والنفسيّة الخبيثة، مثل الحِقد، والحسد، والكراهيّة، والتطرُّف، والفساد، وغيرها.

وإنَّ طريقتنا المُباركة هاته، هي طريقة إصلاحٍ للشباب واليافعين والأطفال، وتَقيهِم من غَياهب الانحراف، وتناوُلِ سمومِ المُخدِّرات، وتُنجيهم من مخَالب التطرُّف، وتغرس في نفوسهم محبَّة الله والرسول صلى الله عليه وسلم، وملِك البلاد، مِصداقاً لقوله تعالى، وقوله الحق : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[13] فطاعة وليّ الأمر واجبة وُجوباً شرعيّاً.

أيُّها المريدون والمُريدات :

نُوجِّهُ عنايَتكُم الكاملة، لإنشاء اجتماعاتٍ للذِّكرِ في الأحياء، التي تبعُدُ عن الزاوية بالمُدُن الكُبرى تسهيلاً عليهم للحضور إليها، وتقريبًا لهذه الرحمة منهم، مثل تقريب الإدارة من المواطنين، فكلُّ زاويةٍ يجب أن تبقى عامِرةً بمُريديها لتُخْرَجَ فيها الأذكار المعهودة، كما نُلِحُّ إلحاحاً كبيراً على كلِّ مُريدي الزوايا التي أُنشِأت أن تلتزمَ بالحضور في الجمعِ العام، والحِرصِ كلّ الحرص علىزيارة الزاوية الأمّ بمداغ، والتواصل مع شيخها لأن الزيارة تُحيي القلوبَ وتُنَوِّرُها، وكما قيل : "زُورُوا تنُورُوا"، كما نُلحُّ كذلك على التَّفَقُّدِ في المدُن لما فيه من متابعة لشؤون الفقراء، وحلِّ مشاكل المُتخلِّفين منهم عن اجتماعات الذكر، وتحفيزهم على الالتحاق بها، كما أوصيكم في هذا الصدد بالتزاور والتعاضد، واجتناب القيل والقال، وستر العورات ، لأن من أسماء الله  "الستَّار" فبَدَل أن يشتغل الفقير بعيوب الناس، عليه أن يشتغِلَ بعيوبِ نفسه، فحاسبوا أنفسكم في كل يوم قبلَ أن تُحاسَبوا، كما ندعوا ونُلحُّ على تشجيع الشباب وتحفيزهم على خدمة الطريقة لأنهم عماد المستقبل، وتجدر الإشارة إلى أن هؤلاء الشباب الذين يسهرون على التنظيم، والحراسة بالزاوية وخدمتها ليل نهار وبدون مَلل ولا كلأ، وفي كل المناسبات راجين من الله تعالى أن يحفظهم، ويُصلح أحوالهم، ويُبلِّغ مقاصدهم، فكما ورَد قي قوله صلى الله عليه وسلم :  «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله»[14] ولذلك أُهيب بجميع مجالس الزوايا بالمدُن أن يبعثوا بالمتطوعين من الشباب والحرفيين للخدمة والصيانة والإصلاح قبل كل موعد مناسبة من المناسبات وهذا من آكد الواجبات في الطريقة  وشرط أساسي فيها.    

ولا يفوتني أن أُنوَّه بما قمتم به من عناية بتوجيهاتنا ووصايانا في مجالسكم حيث تدارستم كل التوصيات، وبحثتم في طرق تنزيلها وتفعيلها، زادكم الله قوة وثباتًا وتمكيناً في هذه الرحمة، يقول الله تعالى في مُحكم تنزيله : {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [15]،

وفي نفس الوقت نشكر شكراً جزيلاً سائر المريدين والمريدات على ما بذلوه من مجهودات لإنجاح هذه المناسبة، مناسبة المولد النبوي الشريف، كما أشيد بتجاوبكم مع الجولة التفقُّديّة التي أذِنَّا بها والتي أعطت والحمد لله نتائج سارّة.

أيها الإخوة والأخوات :
إن الهدف الذي نتوق إليه من إنشاء هذه الزوايا في الأحياء وتقريبها، هو درأ عناء وتعب تنقل الذاكرين والذاكرات، وطلب الانتفاع من الحضور في هذه المجالس وإعمارها على الدوام، و"الرضا يخصُّ من حضر" فالحضور في هذه الاجتماعات سنَّة مؤكدة شرعاً، حيث يقول صلى الله عليه وسلم :«مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»[16] على أن ذكر الله في ساعة الحرج من أقوى أسباب الفرج، فدلَّ هذا على أن ذكر الله في ساعة الحرج هو من أقوى أسباب الفرج، والابتعاد عنه والإعراض عنه، عن الحضور في هذه الاجتماعات مآل من مآلات العذاب، قال تعالى : {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[17]، وقال صلى الله عليه وسلم : «عليكَ بالجماعةِ فإنَّما يأكلُ الذئبُ منَ الغنمِ القاصيةَ»، وفي ذمِّ الإعراض عن مجالس الذكر ٌول أهل الله :

أيها المــعرض عنا       إن إعراضك مـــــنا
لو أردناك جعلنا       كلَّ ما فيك يردنــــــــــا

فبواسطة هذا الإكسير الرباني السماوي، استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم نشر الإسلام، فكذلك العارفون بالله، لا يقومون بأنفسهم في نشر هذه الدعوة حتى يحصُلوا على الإذن من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[19]، إن هذا السر لا يُعرف بالكلام، ولا بمطالعة الكتب، ولا بحضور المحاضرات بمُدرجات الكليات، لأنه علم أذواق لا علم أوراق، وعلم القلوب يعرف بصُحبة الرجال الحاصلين على الإذن الرباني، النبي صلى الله عليه وسلم لم يقُم بنشر دعوته من تلقاء نفسه، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[20]، فالرسول صلى الله عليه وسلم ﺑﺸﺮ ، ﻭﻟﻴﺲ ﻛﺎﻟﺒﺸﺮ ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﻳﺎﻗﻮﺗﺔ ، ﻭ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻛﺎﻟﺤﺠﺮ.

إن الطريقة علم وعمل وخدمة للوطن، وجُلُّ أفراد هذه الطريقة أطرها شابة، عمِلت الطريقة على تكوينهم وتأطيرهم، فتخرج منها أكابر الموظفين، من أطباء ومحامين، ومهندسين وأساتذة جامعيين، وغيرهم من الكفاءات، ولهذا فقد أخطأ كلّ الخطأ من اتَّهمَ التصوف بالتقَوقُعِ والتواكل والانزواء ولبس المُرقَّعات، وبعبارة أدقّ، فإنَّ التصوُّف هو الإسلام الخالص، إنه لبُّ الإسلام، إنّه مقام الإحسان، والتزكيّة والصدق، والإخلاص في جميع الأعمال، إنه الدواء الناجع لجميع الأمراض القلبية والنفسيّة المُستعصيّة التي حار في علاجها الأطباء، فالصوفيّة هم السلف الصالح الحقيقيُّون، إنهم خُدَّام الكتاب والسّنَّة، فلقد سمعت من جَدِّي مرّات عديدة في مجالس شتى قائلا :" إنّ التصوف هو : {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}"، وقال الوالد رحمه الله كذلك في قولته الشهيرة : "التصوف أذواق وأشواق وأخلاق" وقد سأل أبو علي الرودباري عن الصوفي فأجاب : "الصوفيُّ هو مَن لبِس الصّوف على الصّفا ،وسلَك طريق المُصطفى ،وأطعم الهوى ذوق الجفا ،وكانت الدنيا منه على القفا".

وقبل ختم هذه الكلمة، أودُّ أن أوجه أحرّ تشكراتي إلى ابننا البار الدكتور سيدي منير، على ما بذله من مجهودات جبارة لإنجاح هذه التظاهرة العلمية العالمية الكبرى، كما لا يفوتني في نفس الوقت بهذه المناسبة أن أشكر جزيل الشكر الإخوة والأخوات الذين ساهموا من قريب أو بعيد في تنظيم هذا الملتقى الكبير، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ويجدر بنا أن نشير إلى أهمية موضوع التنميّة التي تدارسها الملتقى، فإن الطريقة توليها عناية خاصة بها، ولذلك ندعو كافة المريدين والمريدات إلى الاهتمام بها بُغية النهوض ببلدنا والرقي به استجابة للنداء الملكي السامي الداعي إلى نموذج تنموي جديد.

وختامًا نسأل الله الذي كلُّنا إليه واعتمادُنا عليه بحقِّ (سورة الفاتحة) كما نسألك يا الله بكل وحي أوحيته، وكل قضاء قضيته، أن تحفظ كل من أتى إلى هذه الزاوية العامرة بالأذكار، من كل سوء ومكروه، وتبليغ مطالب الذاكرين والذاكرات، وتصلح أحوالهم وأبناؤهم وازواجهم، وتُثبِّتهم في هذه الرحمة إلى أن يلقوا الله فرحين مستبشرين، وأن يمُنَّ على جميع الحاضرين نساءً ورجالا، شيوخاً وشباباً، كُهولاً وأطفالاً، بسعادة الدارين، ولكل فلذات الفقراء بالتوفيق والنجاح في دراستهم ليصير كل واحد منهم إن شاء الله تعالى شخصية فذّة تخدم الوطن والصّالح العام، كما ندعوه تعالى من أعماق قلوبنا، كامل الصحة وتمام العافية وطول العمر لصاحب الجلالة أمير المؤمنين الملك سيدي محمد السادس، كما نرجوه تعالى أن يحفظه في قرّة عينه الأمير الجليل مولاي الحسن، ويشدّ عضده بصنوه السعيد مولاي رشيد، ويحفظ كل أسرته العلوية المجيدة، كما ندعو الله تعالى أن يحفظ هذا البلد الأمين، وأن يُديم فيه الأمن والأمان، والسلم والسلام، وأن يُظهر فيه جميع الخيرات الحسيّة والمعنويّة، وأن يُتوِّج الله جميع الجهود المبذولة في طيِّ ملف الصحراء المغربية بالنصر والتمكين، ويعجِّل في تحقيق وحدة المغرب العربي لكي يعُمَّ الازدهار، ويتم التعاون بين أقطاره، ويُخمدَ نار الفتن في العالم العربي والإسلامي، ويُحلل مشاكل دول الخليج ويُلهمهم السداد والرشاد، ويُنعم عليهم بالوحدة والاتحاد، ويُجنبهم الفُرقة والشتات، ويجمع شملهم، إنه سميع مُجيب، ربّنا تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، آمين، والحمد لله رب العالمين. 
**  **  **
الهوامش

1 - الراوي : جبير بن مطعم | المصدر : صحيح البخاري ومسلم
2 - سورة آل عمران | الآية : 103
3 - سورة آل عمران | الآية : 110
4 - أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَصَحَّحَهُ ، تَفَرَّدَ بِهِ سُفْيَانُ
5 - الراوي : أبي هريرة | المصدر :أخرجه البخاري (5997)، ومسلم (2318)، وأبو داود (5218)، والترمذي (1911)، وأحمد (10673) واللفظ له.
6 - رواه الترمذي عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه .ورواه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
7 - سورة الرعد | الآية : 28
8 - سورة الشعراء | الآية : 88-899 - رواه الترمذي من طريق علي بن ثابث الجَزَرِي، وابن ماجه في سننه، وابن أبي عاصم في الزهد -ومن طريقه المزّي في تهذيب الكمال - والبيهقي في شعب الإيمان.
10- أخرجه ابن حبان في الضعفاء من حديث عائشة .
11 - شعب الإيمان للبيهقي.
12 - سورة الإسراء| الآية : 20
13 - سورة النساء| الآية : 59.
14 - رواه الترمذي.
15 - سورة الكهف| الآية : 30
16 -الراوي : أبو هريرة | المحدث : أبو داود | المصدر : سنن أبي داود
التخريج : أخرجه مسلم (2699)، وابن ماجه (225)، وأحمد (7427) مطولاً، وأبو داود (1455) واللفظ له.
17 -  سورة النجم| الآية : 29
18 -الراوي : أبو الدرداء | المحدث : أبو داود | المصدر : سنن أبي داود
التخريج : أخرجه أبو داود (547)، والنسائي (847) واللفظ لهما، وأحمد (21710) باختلاف يسير.
19 -  سورة الأنعام| الآية : 124
20 -  سورة الأحزاب| الآية : 45
21 -  سورة الحشر| الآية : 7

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية