آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم 51

هذا آخر الباب الخامس عشر. وحاصله : آداب المريد في المدح والذم، ومرجعها إلى خمسة :

الأول : ذمّ النفس عند مدحها بما ليس فيها.
الثاني : استحياؤه من الله أن يمدح بوصف لا يشهده من نفسه. 
الثالث : أن يرجع إلى يقين ما عنده فيعول عليه ولا يغترّ بظن ما عند الناس فيعتمد عليه.
الرابع : أن يكثر من الحمد والشكر لمولاه حيث ستر عيوبه وأظهر توفيقه وهداه. 
الخامس : أن يكون معتدل الحال سليم القلب فلا يحزن عند الذم ولا يفرح عند المدح.
قال بعض العارفين : "إذا قيل لك نِعم الرجل أنت فكان أحب إليك من أن يقال لك : بئس الرجل أنت، فأنت والله بئس الرجل". 

وجاء رجل إلى شيخ شخنا مولاي العربي رضي الله عنه فجعل يمدحه في وجهه، فقال له : "يا هذا لا تغرني بقولك أنا أعرف نفسي حين أكون أفضل الوجود أو أقل الوجود، فالوقت الذي أكون فيه ذاكراً لربي أنا أفضل الوجود، والوقت الذي لا أذكر الله فيه أنا أقل الوجود" أو كلام هذا معناه.

لكن هذا الأدب الخامس يختلف باختلاف الأحوال، فالعباد يغلبون حب الذم على المدح، والعارفون يغلبون حب المدح على الذم أو يعتدلون كما يعتدولون في حال المنع والعطاء والقبض والبسط والذل والعز والفقر والغنى وغير ذلك من اختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، ومن جملة ذلك الخوف والرجاء بحيث إذا صدرت منهم طاعة لا يزيد رجاؤهم، وإذا وقعت منهم زلة لا يعظم خوفهم ولا تنقص استقامتهم، كما أشار إلى ذلك في أول الباب السادس عشر بقوله : 

قال رضي الله عنه :

(إِذَا وَقَعَ مِنْكَ ذَنْبٌ فَلاَ يَكُنْ سَبَبًا لِيَأْسِكَ مِنْ حُصُولِ الاسْتِقَامَةِ مَعَ رَبِّكَ ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ آَخِرَ ذَنْبٍ قُدِّرَ عَلَيْكَ)


قلت : السائر الصديق أو الواصل إلى التحقيق كالراكب المغير جاداً في المسير كاد من السرعة أن يطير فإذا وقعت منه كبوة أو سقطه أو صدرت مه عثرة أو هفوة استوى على جواده واستمر على إغارته في طلب مراده، فإذا سقط وجعل يتمرغ في سقطته كان ذلك دليلاً على فترته وعدم تحصيل طلبته، فإذا وقع منك أيها الفقير ذنب فلا يكن سبباً في قطعك عن الله أو يؤنسك من الاستقامة مع الله، فيتضاعف عليك وبال المعصية وتعظم في حقك المصيبة والبلية، فقد يكون ذلك رحمة بك وتنبيهاً لك من سنتك كحصول ملل وفترة، فإذا سقطت نهضت وإذا قمت جددت، وقد يكون ذلك آخر ذنب قدره الله عليك.

 وتأمل ما وقع لكثير من الأكابر كانوا لصوصاً فصاروا خصوصاً، كإبراهيم بن أدهم والفضيل وأبي يعزى وغيرهم ممن لا يحصى، فليكن لك بهم أسوة في حسن الظن بالله. قال تعالى : {لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف:87] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) وقال عليه السلام : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كُلّ مُفَتَّنَ تَوَّاب) يعني كثير الذنب كثير التوبة. قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة:222] فهذه الآيات تقوِّي رجاء العباد وتوجب الاعتدال والسداد.

وقد بين أصل الرجاء والخوف ومنشأهما  فقال :

(إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَفْتَحَ لَكَ بَابَ الرَّجَاءِ فَاشْهَدْ مَا مِنْهُ إِلَيْكَ ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَفْتَحَ لَكَ بَابَ الْخَوْفِ فَاشْهَدْ مَا مِنْكَ إِلَيْهِ)


قلت : إذا أردت أيها الإنسان أن يتقوّى رجاؤك في الكريم المنان فاشهد ما منه إليك من الإحسان واللطف والمبرة والامتنان، فهل عوّدك إلا حسناً، وهل أسدى إليك إلا منناً، عليك بسط منّته ولك هيّأ جنته، أنعم عليك في هذه الدار بغاية الإنعام وما قنع لك بذلك حتى أعدلك دار السلام باقية مستمرة على الدوام، ثم أتحفك بالنظر إلى وجهه الكريم تماماً على سابق إحسانه القديم.

وإذا أردت أن ينفتح لك باب الحزن والخوف فاشهد ما منك إليه من الإساءة والتقصير في العبادة أو من موافقة الشهوة والاسترسال مع الغفلة، فإنك أن شهدت ذلك دام حزنك وقوي خوفك وربما كان سبباً في سوء ظنك بربك فتزل قدم بعد ثبوتها، وفي الحديث : (لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ آخَرينَ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لهمْ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحيم) فدل الحديث على أن شهود الكرم أفضل عند الله من شهود الانتقام.

"خِصْلَتَان لَيْسَ فوقَهُما شَيءٌ منَ الخير: حُسْنُ الظن بالله، وحُسْنُ الظن بِعباد الله. وخَصْلَتَان لَيْسَ فوقَهما شيءٌ مِن الشرِّ: سُوءُ الظنّ بِالله، وسُوءُ الظنِّ بِعِبادِ الله" كما في الحديث.

 وبقيت مرتبة ثالثة وهي الغيبة عن الرجاء والخفو بشهود ما مَنَّ الله إلى الله وهو مقام أهل الشهود، فلذلك اعتدل أمرهم في جميع الأحوال، نفعنا الله بذكرهم آمين.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية