الكتاب : مفتاح طريق الأولياء وأهل الكمال من العلماء
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن مسعود، عماد الدين الواسطي البغدادي ثم الدمشقيّ، المعروف: بابن شيخ الحزامين (المتوفى: 711 هـ)
الحمد لله وَليّ الحمد ومستحقّيه، وصلاته على خير خلقهِ، محمد النبي وآله وصحبه.
وبعد :
فسلام الله وبركاته على قلوب استنارت بأنوارِ العرفان، فصارت كالكوكب الذي يتلألأ بتوفيق المنّان، عَزفت عن الدنيا وشهواتها، واشتاقت إلى قُربِ الرحيم الرحمن، لَهَجت بأذكاره، وحنّت إليه وإلى جواره، وتمسّكت بتقواه، واكتحلت بأواره فصارت لها بعد الإيقان إيقان، ومع الإيمان إيمان، يتزايد أبداً إلى سُكنى الجِنان، لو رأيتهم يا أخي لوجدتَ قوماً أرواحهم إلى الله عزَّ وجلّ بالشوق طائرة، وأبدانهم بالطّاعات عامِرة، ونفوسهم على أقضية العزيز صابرة، يصومون إذا أفطر النّاس، ويقومون في الدَّياجي إلى تجارات المعاملات خشية الإفلاس، ويحزنون إذا فرِحَ النّاس، ويبكون إذا ضحك أهل البطالة والوسواس، أبصرت قلوبهم من عظمة مولاهم ما يخفى على الأعين الظاهرة، وابتهجت بالنّور سرائرهم؛ فهم على قدم التهيء إلى أرض السَّاهرة.
اعلم يا أخي أنَّ أمامَنا يوم يشيبُ فيه الوليد، وتضعُ كُلَّ ذات حملٍ حملها، وترى الناس سُكارى وما هم بسُكارى ولكن عذاب الله شديد، يوم تظهر فيه المُخبئات، وتبدو فيه المكتتمات، ويسأل الله عبده عن عُمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن مالِهِ من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وسُعِّرت النيران لأهل الوعيد، قال الله تعالى : ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 31 - 35]. ذلك والله يوم يفرح فيه العاملون، ويخيبُ فيه المُبطلون، وتُوفَّى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون.
فإن أردت أيها الأخ النَّجاة من هوْل ذلك اليوم فاستعدَّ له بالتقوى، وحفظ الجوارح عن جميع ما حرَّمهُ الله تعالى، والقيام بجميع ما أمرك الله به من الحقوق المدوَّنة في كتب الفقه من الحلال والحرام، والحدود والأحكام؛ بحيث لا يبقى عليك في الشريعة مطالبةٌ، ولا يبقى في ذمتك صلاة فائتةٌ، ولا صومٌ فائتٌ، ولا زكاة واجبة، ولا غيبة لمسلم بغير حق، ولا مخاصمةٌ ولا شحناءُ ولا بغضاء بغير حقٍّ، واعمل على أن تبرئ ساحتَك من كلِّ حَقٍّ بينك وبين الله، ومن كل حقٍّ بينك وبين العباد، فهنالك تدخل إن شاء الله تعالى في زُمرة الصالحين.