الباب الرابع في شرح حال الصوفية واختلاف طريقهم.
والصوفية هم الذين أحيوا هذه السنة، وطهارة الصدور من الغل والغش عمادُ أمرهم، وبذلك ظهر جوهرهم وبان فضلهم، وإنما تمكنوا من ذلك بالزهد في الدنيا فإن مثار الغل والغش محبتها، ومحبة الترفع والمنزلة عند الناس، والصوفية زهدوا في ذلك كلِّه، كما قال بعضهم: "طريقُنا هذا لا يصلح إلا لأقوام كنست بأرواحِهم المزابل"، وأشار بذلك إلى غاية التواضع وألَّا يرى نفسه تتميز عن أحد من المسلمين لحقارته عند نفسه، وعند هذا ينسد بابُ الغش والغلِّ.
وذكر بعض الفقراء في معناه: أن الإشارة بالمزابلِ إلى النفوس؛ لأنها مأوى كل رجس ونجس كالمزبلة، وكنسها بنور الروح؛ لأن الصوفية أرواحهم في محال القرب، وسرُّها يسري إلى النفوس، فإذا سرى إليها طابت وذهب عنها الغل والغش والحقد والحسد، فكأنها تتكنس، وهذا المعنى صحيح، وإن لم يرد القائل بقوله ذلك، قال الله تعالى في وصف أهل الجنة: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47].
قال أبو حفص: كيف يبقى الغل في قلوب ائتلفت بالله، واتفقت على محبته وأنست بذكره، إن تلك قلوب صافية من هواجس النفوس وظلمات الطبائع، بل كحلت بنور التوفيق، فحجاب الخلق عن إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا وحالًا، صفات نفوسهم، فإذا زاالت ارتفع الحجاب وحصلت المتابعة ووجبت المحبة لهم من الله تعالى عند ذلك بقوله تعالى : ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: 31]، والصوفية من بين طوائف الإسلام ظفروا بحسن المتابعة؛ فاشتغلوا بأوامره، وانتهوا عن ما نهاهم عنه، ثم اتبعوه في فعله من الجد في العبادة والتهجد والصوم والصلاة وغير ذلك من أنواع التعبدات، فرزقوا ببركة المتابعة في أقواله وأفعاله التخلق بأخلاقه من الحياء والحلم والصفح والعفو والرأفة والشفقة والمداراة والنصيحة والتواضع، والرضا والصبر والزهد والتوكل.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمَ الافتقار إلى الله عز وجل حتى يقول: «لا تكلني إلى نفسي طرفة عين؛ اكلأني كلاءة الوليد».
فمن أشرف ما ظفر به الصوفي من متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم دوام الافتقار ودوام اللجاء إلى الله تعالى، ولا يتحقق بذلك إلا من كوشف باطنه بصفاء المعرفة، وأشرق صدره بنور اليقين، وخلص قلبه إلى بساط القرب، وخلا سره بلذاذة المسامرة، فبقيت نفسه بين هذه كلها، ومع ذلك فيراها مأوى كل شر، إذ هي بمثابة النار لو بقيت منها شرارة أحرقت عالما، وهي سريعة الرجوع وشيكة الانقلاب.
فلا يزال دائم الاستغاثة إلى مولاه من شرها لمعرفته بها، و«من عرف نفسه فقد عرف ربه». كارتباط معرفة الليل بمعرفة النهار، لأنه لا يخلو من مطالعتها أدنا ساعة كما لا يخلو عن ربه أدنا ساعة، ويجمع حمل حال الصوفية شيئان هما وصف الصوفية، وإليهما الإشارة بقوله تعالى: ﴿اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشُّورى: 13].
فقوم من الصوفية خُصوا بالاجتباء الصرف، وقوم منهم خصوا بالهداية بشرط تقدم الإنابة، فالاجتباء المحض غير معلل بكسب العبد، وهو حال المراد يبادئه الحق بمنحه ومواهبِه من غير سابقة كسب، فيرتفع الحجاب عن قلبه، ويبادره سطوع نور اليقين، فيقبل على العمل بلذاذة وعيش فيه قرة الأعين، فيسهِّل ذلك الكشف عليهم الاجتهاد، كما سهَّل على سحرة فرعون لذاذة النازل بهم من صفو المعرفة تحمل وعيد فرعون، فقالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات.
قال جعفر الصادق رضى الله عنه: "وجدوا أرواح العناية القديمة بهم، فالتجئوا إلى السجود شكرًا، وقالوا: آمنا برب العالمين".
يتبع...