وقد علم ما سبق أن الهوى والميل إلى الخلق مانع من مشاهدة الحق والوصول إليه، لأنه لا يمكن المشاهدة مع وجود الهوى والميل الذي به الوقوف مع الخلق، فيجب على السالك الطالب للحق أن لا يقف مع الخلق، كما قال قُدِّس سره :
(ما دُمتَ في طَلبِ الحَقِّ، فَلَا تَقِفْ مَعَ الخَلقِ)، و"ما دمت" في تأويل دوامك؛ لأن "ما" ألة المصدر وهو ظرف ل "لا تقف" بحذف المضاف وهو المدة أي : إذا لم يمكن رؤية الحق تعالى، ومشاهدته مع وجود الهوى والميل إلى الخلق، فلا تقف أيها السالك الطالب للحق مع الخلق، ولا تميل إليهم وتريهم معدومة صرفة مدة دوامك في طلبك الحق تعالى؛ لأنك متى تميل إلى شيء تحبه، وإذا أحببته تشتغل به، وإذا انشعلت به فتؤثره على غيره، ولذا قيل : إذا أردت ترك حظوظها فآثر عليها الحق، وإن أردت ترك حظوظ نفسك فآثر عليها العبودية لله تعالى.
وقد ورد فيما أوحي إلى بعض الأنبياء : "إن كنت تحبني فأخرج حبّ الدنيا من قلبك فإنهما لا يجتمعان معاً" فمن كان مع الأكوان، فكيف يشهد المكون ؟، والحق تعالى لا يحب الهوى والقلب المشترك، كما لا يحب العمل المشترك، والقلب المشترك هو الذي دخله الميل إلى الخلق، والأنس بهم، والوقوف معهم، وهذا القلب لا بقبل، وما لا يقبل فهو مردود؛ لأنه تعالى لا يرضى بالشرك قال تعالى : {أَنَا أَغْنَى الشُّرَكاء عَن الشِّرْك}1، والقلب إيوان الملك ويسعه، فلا ينبغي أن تجعل غيره شريكاً له فيه، فالوقوف مع الخلق حجاب لك من الوصول إلى الحق، فمن لم يجد الحق تعالى ما وجد شيئاً، ومن وجده ما فقد شيئاً، فإذا كان الالتفات إلى الغير حجاباً فالرضا به كذلك بالأولى، وقد خاب من رضي دونه بدلاً.
وقال الله : {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ}[الذاريات:5].
وقال : {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}[الأنعام:91]، والخلق إن دعاك إليهم ظاهرهم فقد نهاك عنهم باطنهم، والله تعالى وَسَمَ الدنيا بالوحشة والأغيار والأكدار تزهيداً للمريد فيها، ليأنس بالواحد العزيز الغفار.