كان كتَبة الوحي يكتبون بتوجيهات الرسول الكريم، والشاهد ما أورده الهيثمي في كتاب العلم، باب عرضُ الكتاب بعد إملائِه[1]، عن زيد بن ثابت أنه قال: "كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملي عليَّ، فإذا فرغت قال: (اقرأه)، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثمّ خرج به إلى الناس"[2].
فيكون الرسول الكريم قد رُزق علماً إلهياً تكوينياً ومُنع الكتابة والقراءة، فهو "علم لدني" بتعليم وهِبة من الله تعالى كما علّم سليمان عليه السلام مَنْطِق الطّير، كما قال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا)[3]،حيث يفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند الله من غير واسطة. وهذا يقتضي أنه تعالى علّمه لا بواسطة تعليم معلم ،ولا إرشاد مرشد[4] ، أي أنه عليه السلام عُلّم علم الأولين والآخرين من غير اكتساب ولا تعلم، وفي ذلكم يقول إبراهيم الأبياري: "وهذا الوحي أُلهم الرسول معناه كما ألهم لفظه، فهو بمعناه ولفظه من صنع السماء، والرسول ناطق بلسان السماء يملي على قومه ما أملته عليه السماء، يصور ما تصور في وعيه، وينطق بما أنطقته السماء"[5] .
فلا جرم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يستمد علومه إلا عن طريق الوحي، وهذا ما يغنيه عن القراءة والكتابة، والكثير من المناقب التي وهبها الله تعالى له، لا تبتعد عن العلم الإلهي التكويني بكل شيئ، والقرآن الكريم يرشدنا إلى فهم هذا المعنى عندما وصف عيسى بهذا الأمر، وذلك في قوله تعالى: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)[6]. وهذا نوع من التعليم على الرغم من أنه لا يزال في المهد وهذا الأمر يجري في إيتاء يحيى الكتاب والحكم وهو لا يزال صبياً، كما في قوله تعالى: (يا يحيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)[7].
كما أن الوحي كتاباً وسنةً قد أشار إلى التوسم و الفراسة ـ وهو الاعتبار والتبصّر والنظر بهدي ونور من الله. ففي تأويل الطبري لقوله تعالى:( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)8 عن مجاهد قال : للمتفرسين [9].
وروى أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)، وفي معنى الحديث جاء في تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي:" (اتقوا فراسة المؤمن )أي اطلاعه على ما في الضمائر بسواطع أنوار أشرقت على قلبه فتجلت له بها الحقائق (فإنه ينظر بنور الله ) أي يبصر بعين قلبه المشرق بنور الله تعالى".
هذا العلم اللدني مكتسبٌ عند المؤمنين بالمجاهدة والطاعات ، قال ابن خلدون في مقدمته : " ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس والإطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراكُ شيء منها ....".
وقد قسّم إبن القيم الفراسة إلى ثلاثة أقسام [10]:
- الفراسة الإيمانية : وهى نور يقذفه الله في قلب عبده يفرق به بين الحق والباطل , والحالي والعاطل , والصادق والكاذب , وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب كوثوب الأسد على الفريسة , وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيمانا فهو أحدُ فراسة . . . و هذا النوع مصاحب للأنبياء و الصالحين وأهل العلم والايمان. وكان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة، وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووقائع فراسته مشهورة، يطول سردها[11].
- الفراسة الخلقية : وهى التى صنف فيها الأطباء وغيرهم واستدلوا بالخِلق على الخٌلق لما بينهما من الارتباط الذى اقتضته حكمة الله كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل وبكبره على كبر العقل , وبسعة الصدر وبعد ما بين جانبيه على سعة خلق صاحبه واحتماله وبسطته , وبخمود العين وكلال نظرهما على بلادة صاحبها , وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته ومكره وخداعه. . .
وأصل هذه الفراسة أن اعتدال الخِلْقَةِ والصورة هو من اعتدال المزاج والروح، وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال، وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال، هذا إذا خُلِّيَتِ النفسُ وطبيعتها...
- الفراسة الرياضية : فراسة الرياضة والجوع والسهر والتخلي , حيث أن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها , وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر , ولا تدل على إيمان ولا على ولاية , وهي من أبطل الباطل , وللرهبان فيها وقائع معلومة , وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع ولا عن طريق مستقيم , وهي من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا . . .
و يوجد هذا النوع من الفراسة حتى هذا الحين لدى رهبان معبد شاولين و أيضاً لدى الرهبان البوذيين و الكونفوشيسيين و ما الى غيرهم.
وحاصل القول إن ألفاظ العلماء وإن اختلفت في حدّ الفراسة[12]، لكنها تصب فى معين واحد وهو: الفرض الراجح بعد الملاحظة العلمية أو الظن الصائب بعد تثبيت النظرفي الظاهر لإدراك الباطن. فهي إذن إلهام يقفز فجأة لذهن المتفرس ممن شهد له بحسن الفطنة وحدّة الذكاء والمعرفة. فهي ليست وحيا ولا علما وإنما هي ظن وتخمين، لذا عرّفها ابن الأثير بقوله: " ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس "[13].
وختام القول إن "من منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفراسة" [14].
والله أعلم والحمد لله رب العالمين.
** ** **
1- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي: 1/ 206.
2- أخرجه الطبراني في الأوسط (رقم الحديث 1913) .
3- جزء من الآية 65 من سورة الكهف.
4- مفاتيح الغيب:21 / 149 .
5- تاريخ القرآن:83
6- .مريم: 30 .
7- مريم:.41
8 - الحجر:75
9- تفسيرالطبري:17/120
10ـ مدارج السالكين:2/ 482.
11- من فراسة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
أخرج ابن سعد في الطبقات ذكر وصية أبي بكر عن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر لما حضرته الوفاة دعاها فقال:" إنه ليس في أهلي بعدي أحَدٌ أحب إلي عنى منك ولا أعزعلي فقرا منك وإني كنت نحلتك [النحلة :العطية من غير عوض ولا استحقاق] من أرض بالعالية جَدادَ[الجداد :صرام النخل وهو قطع ثمرتها] يعني صرام عشرين وسقا [الوسق ستون صاعا أو حمل بعير] فلو كنت جددْتِهِ تمرا عاما واحدا انحاز لك وإنما هو مال الوارث وإنما هما أخواكِ وأختاك فقلت: " إنما هي أسماء فقال :"وذاتُ بطن خارجة قد ألقي في روعي أنها جارية فاستوصي بها خيرا " فولدت أم كلثوم . " قال التاج السبكي في حجة الله على العالمين للنبهاني : " وفيه كرامتان لأبي بكر رضي الله عنه إحداهما إخباره أنه يموت في ذلك المرض حيث قال:" وإنما هو مال وارث " والثانية إخباره بمولود يولد له وهو جارية .
ـ ومن فراسة عمر إبن الخطاب رضي الله عنه:
جاء في كتاب معيد النعم ومبيد النقم لتاج الدين السبكي قال: " كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قد أمر سارية ابن زنيم على جيش من جيوش المسلمين وجهزه إلى بلاد فارس فاشتد الحال على عسكره بباب نَهَاوَنْدَ وكاد المسلمون ينهزمون وعمر رضي الله عنه بالمدينة فصعد المنبر ثم استغاث في اثناء خطبته بأعلى صوته: "ياسارية الجبل! ياسارية الجبل !"فأسمع الله سارية وجيشه أجمعين وهم على باب نهاوند صوت عمر فلجؤوا إلى الجبل فنجوا وانتصروا." قال العجلوني في كشف الخفاء وإسناده كما قال الحافظ ابن حجر حسن.
وذكره البيهقي في الدلائل واللالكائي في شرح السنة وابن الاعرابي في كرامات الاولياء وألف القطب الحلبي في صحته جزءا.
12- قال صاحب كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: "الفِرَاسَة هي الاستدلال بالأمور الظَّاهرة على الأمور الخفيَّة" ، وقال فخر الدين الرازي في كنابه الفراسة: الفراسة هي الاستدلال بالأحوال الظاهرة على الأخلاق الباطنة. وذهب الدراني فيما نقله عنه صاحب مدارج السالكين : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب وهي من مقامات الإيمان4. واعتبر بعض العلماء أن الفِرَاسَة عِلْمٌ تُـتَعرَّف منه أخلاق الإنسان، من هيئته ومزاجه وتوابعه، وحاصله الاستدلال بالخَلْق الظَّاهر على الخُلق الباطن.13- النهاية في غريب الحديث 3/428 .
14- مدارج السالكين:2/ 453 .