النشأة
تنوعت آراء الباحثين والعلماء حول قضية نشأة التصوف، ومنبت بيئته وهم لا يجمعون في ذلك على رأي خاص، بل كل ذهب مذهبا خاصا به وأخذ يستدل عليه، وتتلخص تلك الآراء في اتجاهات ثلاثة:
الاتجاه الأول:
يعد التصوف إسلامي النشأة ،وأن أصوله السلوكية والعقدية مستمدة من الكتاب والسنة وأفعال السلف الصالح ،وأن اسم التصوف قد وجد من القرن الأول الهجري، ويترأس أصحاب هذا الرأي أبو نصر الطوسي ، والحسن البصري كما مر بنا، أما ابن خلدون فيرى : "أن التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملة ، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم طريقة الحق والهداية ،وأصلها العبادة وانقطاع إلى الله، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه ، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة ، وكان ذلك في الصحابة والسلف ، فلما فشي الإقبال عن الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة".
ويرى التفتازاني في كتابه مدخل إلى التصهوف الإسلامي، أن هذا الاتجاه في نشأة التصوف يُطلق عليه مرحلة الزهد الواقعة في القرنين الأول والثاني الهجريين، فقدكان هناك أفراد من المسلمين أقبلوا على العبادة بأدعية وقربات، وكانت لهم طريقة زهدية في الحياة تتصل بالمأكل والملبس والمسكن، وقد أرادوا العمل من أجل الآخرة، فآثروا لأنفسهم هذا النوع من الحياةوالسلوك، ومنهم الحسن البصري، ورابعة العدوية.
ويقول ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس: «كانت النسبة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والإسلام، فيُقال مسلم ومؤمن، ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد فتخلوا عن الدنيا وانقطعوا إلى العبادة واتخذوا طريقة تفردوا بها وأخلاقاً تخلقوا بها».
واحتج القائلون بهذا الاتجاه أن الأصول جميعها التي يعتمد عليها التصوف على غرار التوبة والزهد والصبر والفقر والمراقبة والأنس، كلها ثابتة في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومسلك الصحابة رضوان الله عليهم.
ومن هذا المنطلق يمكن القول إن سلوك بعض العُباد والنساك المسلمين، والمتمثل في الزهد والتقشف وتنوع العبادة وكثرتها والأوبة والتقرب إلى الله عز وجل بصالح الأعمال؛ ذلك هو السلوك والأساس التاريخي لظاهرة التصوف.
الاتجاه الثاني:
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن التصوف ليس إسلامي النشأة، وأنه وفد على البيئة الإسلامية عن طريق الاختلاط بالأجناس الأخرى، نتيجة توسع رقعة الفتوحات الإسلامية، واختلاف عادات وتقاليد وعقائد الشعوب، ما أدى إلى تأثر المسلمين بتلك الملل والنحل واللغات، كما يزعم أصحاب هذا الرأي أن التصوف كان معروفاً قبل الإسلام «... وهؤلاء يرون أنه فارسي أو هندي أو يوناني أو مسيحي، أو أنه مزيج من هذا كله، وعلى رأس هذا الفريق جماعة كثيرة من المستشرقين».
كما أ كد المستشر نيكلسون في كتابه الصوفية في الإسلام على أن أصل التصوف ينحدر من جذور مسيحية، وهو أول مستشرق أكد على هذه النظرية وتبعه الكثير من الباحثين فيه .
والجدير بالذكر أن أصحاب هذا الاتجاه يذهبون إلى أن نشأة التصوف كانت حركة ملزمة لحركة النسك إلى حد تأثرها بالنصرانية والمسيحية ،وقد دعم هذه النظرية الكثير من المستشرقين ، وفي ظنهم أن التصوف نبتة غربية في صحراء الإسلام، فالبعض منهم يرى أن الإسلام في بداياته شهد ممارسة النسك التي تعود إلى التأثيرات المسيحية ،والبعض الآخر يرى أن التصوف ظهر نتيجة التأثيرات بالآراء الهندوسية، على غرار المستشرقين فون كريمر ورينهاندوزي ثم اتبعهما في ذلك م.هورتين، غير أن أبحاثه على كثرتها لم تثبت بالدليل القطعي إمكانية وجود تلك التأثيرات في بدايات التصوف.
ومن المستشرقين من يقف أمام حقيقة ثابتة عندهم، وهي أن أساس التصوف في نشأته يرجع إلى التأثر بالأفلاطونية الحديثة، فكانت هذه بدايات التصوف في الشرق، وعليه فإن التصوف يرجع إلى الغرب في أصوله.
وتعد التأثيرات التركستانية وبالأخص البوذية كما أوضح ريتشارد هارتمن أكثر أهمية من التأثيرات الهندوسية بالنسبة لبدايات التصوف، وقد سبقه في ذلك اغناتس غولدتسهير بالإشارة إلى التشابه بين القصص الإسلامي والقصص البوذي.
وورد في كتاب التصوف المنشأ والمصادر: وقال قوم أن التصوف لا علاقة له بالإسلام إطلاقاً، وهو أجنبي عنه، فلذلك لا يُفتش عن مصادره ومآخذه في القرآن والسنة، بل يُبحث عنها في الفكر الأجنبي، ولا نرى جذورها وبذورها في سيرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام البررة ،بل بالعكس نراها مأخوذة مقتبسة من الرهبنة المسيحية ،والبرهمة الهندوسية ، وتنسك اليهوديهة، وزهد البوذية، والفكر الشعوبي المجوسي، والغنوصية اليونانية والأفلاطونية الحديثة لدى الذين جاؤوا من بعدهم.
ويرى المستشرق الألماني (بالمر) في كتابه (التصوف في المشرق ) الذي نُشر عام 1867م، أن التصوف هو نتاج تطور الدين الأول لدى الجنس الآري.
وخلاصة القول إن نظرة المستشرقين إلى أصل التصوف تنحدر إما فارسي أو يهودي أو مسيحي
أو هندوسي أو يوناني، أو آري، أو بوذي، أو مجوسي، أو تركستاني.
الاتجاه الثالث:
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن التجربة الصوفية في نشأتها لم تكن حكراً على نحلة أو ملة معينة، يقول محمد أركون: «ينبغي أن نلحظ أولاً أن التجربة الصوفية موجودة في كل الأديان ومن ثم ليست حكراً على الإسلام وحده وقد تحققت هذه التجربة من الناحية التاريخية باستمرارية وتواصلية تدعو إلى الإعجاب... إ ن التصوف في مقعده النهائي والأعمق يمثل أولاً التجربة المعيشة نتيجة اللقاء الحتمي والتوحيدي بين المؤمن وربه ".1
كما ورد في كتاب وحدة الأديان للطف الله خوجة « أن التصوف مذهب معروف في كافة الأديان القديمة من هندية وفارسية وإغريقية ويهودية ونصرانية ... وهو في كل ديانة يلبس لبوسها ويتكيف مع خطوطها، مع محافظته على الخط المشترك بينه وبين سائر أنواع التصوف الأخرى، الذي يميز التصوف عن غيره من المذاهب والملل ».2
قال عمر فروخ: "شاع التصوف في الأديان والأمم كلها: في الوثنية والمجوسية واليهودية والنصرانية والإسلام، ولقد عرفه في بعض أشكاله البابليون واليونان والهرومان والهنود والصينيون والعرب والعجم، ولقد عرفته بعض الأمم الفطرية، ولقد تلون التصوف بألوان الأديان التي نشأ بين أهلها حتى إنه لا يستحيل أن نفهم التصوف قبل أن نفهم تطور الدين الذي اتصل به "3
وجاء على لسان أحمد أمين في كتابه ظهر الإسلام: «فالتصوف نزعة من النزعات لا فرقة مستقلة كالمعتزلة والشيعة وأهل السنة، ولذلك يصح أن يكون الرجل معتزلياً وصوفياً، أوشيعياً وصوفياً، أو سنياً وصوفياً، بل يكون نصرانياً، أو يهودياً، أو بوذياً وهو متصوف».4
كما يقول محمد فريد وجدي: «... فنشأ هذا المذهب- التصوف- في كل أمة راقية ، ولبس شكلً مناسباً لعقولها وأفكارها ، وهو معروف في الهند والصين منذ ألوف السنين ، وله عند الهنديين أساليب شديدة على النفس منها أن يظ ل الرجل سنين لا يتكلم بل يقرأ في نفسه بلا صوت ما يكون قد أمره أستاذه بتكراره ، ومنها أن يجلس على صفة خاصة وقتاً مديداً إلى غير ذلك من الأساليب الجهادية، ولكن لما وجد تحت ظل الإسلام وأحيط بأدب القرآن دخل في دور جديد ».5
وعن هذا الاتجاه نخلص برأي المتصوف الهندي الذي تحدث عن مبادئ الصوف في عدة أصول هي:4
- لا يوجد إلا إله واحد، وهو أبدي أزلي لا إله غيره، ومهما تعددت الأسماء باختلف اللغات فهو هو، يراه الصوفيون في الشمس، والنهار، وفي الأصنام، وفي كل ما يعبد، بل يرونه في أشكال العالم، ومع ذلك فهم يرونه وراء هذه الأشكال (الله في كل شيء وكل شيء في الله،) ليس الله في عقيدة تعبد، بل هو المثل الأعلى لأكمل ما يتصوره العقل، والصوفي ينسى نفسه، ويريد أن يتصل بهذا المثل.
- لا يوجد إلا حاكم واحد للعالم وهو الله، وهو الهادي لكل نفس، وهو الذي يخرج أصحابه من الظلمات إلى النور، وهو منبع لكل المعارف.
- ليس هناك إلا كتاب واحد وهو الكتاب المقدس، وهو الطبيعة المفتوحة، وهو الكتاب الذي ينير قارئه، وهو الكتاب المستغني عن اللغة، وعقلاء كل أمة في كل العصور يوقرون هذا الكتاب ويجلونه، ويعدون أنفسهم للاستفادة منه، وكل الكتب المقدسة من إنجيل، وتوراه، وقرآن تدل عليه، وتوجه إلى الاهتمام به.
- الأديان كلها طرق إلى الله، بعضها أرقى من بعض حسب رقي الزمان، وكلها تقود الإنسان إلى المثل الأعلى وهو الله، والأديان وإن اختلفت في الشعائر، فالغرض منها جميعها الوصول إلى الله، والصوفي كما قال ابن عربي: يرى الله في الكعبة وفي المسجد، وفي الدير، وفي الوثن.
- لا يوجد إلا قانون واحد يراه الإنسان إذا أنكر ذاته، وتطلب الحق.
-لا توجد إلا أخوة واحدة تضم الإنسانية كلها، فليس على الأرض إلا حياة واحدة مشتركة، إن اختلفت فإنما تختلف في النظر، والإنسان متحد بغيره في علاقات الأسرة ثم في الأمة، ثم في الإنسانية كلها، والإنسان الكامل من تخطى حدود الوطنية، وارتقى إلى الإنسانية، بل ربط نفسه بالإنسانية في الماضي، والإنسانية في الحاضر، والإنسانية في المستقبل، والصوفي يحتقر من ينظر إلى أمة غير أمته بنوع من الاحتقار؛ لأنه شريك له في الإنسانية.
- لا يوجد إلا قانون أخلاقي واحد ، هو قانون الحب العام الذي ينبع من إنكار الذات، ويُزهر بالإحسان، قد تكون هناك مبادئ أخلاقية كبيرة، ولكن أساسها واحد، هو الحب، وهذا الحب مبعث الأمل، والصبر، والاحتمال، والتسامح وكل الفضائل والكرم، والسماحة والإحسان، كلها صادرة من الحب، وكل الرذائل والجرائم تنشأ عن نقص في الحب، يقولون: إن الحب أعمى، وهذا خطأ فالحب ضوء النظر، العين ترى ما على السطح ولكن الحب يرى العمق،إ ن النار التي لم تشتعل تماماً لا ينشأ عنها إلا الدخان، ولكنها إذا اشتعلت كان منها النهار والضوء، فكذلك القلب إذا أحب أو لم ُيحب.
- لا يوجد إلا شيء واحد يستحق الثناء وهو الجمال الذي يرفع القلب من الحضيض إلى أن يبلغ أعلى السماء، والإنسان من تحلى بنفس جميلة تحب الجميل، وهو يبتدئ بحب المادة، وينتهي بحب المعنى، يبتدئ بحب المنظور، وينتهي بحب غير المنظور.
- ليس هناك إلا حقيقة واحدة هي : معرفتك نفسك، كما قال الإمام علي:" اعرف نفسك تعرف ربك".
- إذا كانت هناك طرائق عديدة توصل إلى الله، فهناك طريق مستقيم واحد، وهو الطريق الذي تمحي فيه الأنانية والأثرة، وتسكن فيه الفضيلة والكمال، وهو الطريق الذي تمحي منه الرغبات الجسمية والأوهام العقلية.
كما يُعضِّد ما سبق قول عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل :«اعلم إن الله تعالى إنما خلق جميع الموجودات لعبادته فهم مجبولون على ذلك ،مفطورون عليه من حيث الأصالة ، فما في الوجود شيء إلا وهو يعبد الله تعالى بحاله ومقاله وفعاله ،بل بذاته وصفاته ، فكل شيء في الوجود مطيع لله تعالى، لقوله تعالى :﴿ اِيتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾6، وليس المراد بالسماوات إلا أهلها ،ولا بالأرض إلا سكانّا ،قال تعالى :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾7،ثم شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنّهم يعبدونه لقوله : "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " لأن الجن والإنس مخلوقون لعبادته وهم ميسرون لما خُلقوا له ، فهم عباد الله بالضرورة ،ولكن تختلف العبادات لاختلاف مقتضيات الأسماء والصفات ،لأن الله تعالى متجل باسمه المضل كما هو متجل باسمه الهادي ، فكما يجب ظهور أثر اسمه المنعم ، كذلك يجب ظهور اسمه المنتقم ،واختلاف الناس في أحوالهم لاختلاف أرباب الأسماء والصفات ، قال تعالى:﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾8، يعني عباد الله مجبولين على طاعته من حيث الفطرة الأصلية ﴿فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّئِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾9، ليعبده من اتبع الرسل من حيث اسمه الهادي وليعبده من يخالف الرسل من حيث اسمه المضل ،فاختلف الناس وافترقت الملل وظهرت النحل».10
** ** **
1 - محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد
2 - لطف الله خوجة، وحدة الأديان في تأصيلت التصوف وتقريرات المتصوفة – دراسة تحليلية
3 - عمر فروخ ، التصوف في الإسلام .
4 - أحمد أمي، ظهر الإسلام، ص325-324.
5 - محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، دار المعرفة، بيرت لبنان، ط 3، 1971، ص 588- 589
6 - سورة فصلت، الآية .11
7 -سورة الذاريات، الآية 57.
8 - سورة البقرة، الآية211
9 - سورة البقرة، الآية211
10 - عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل