وذكر أبو العباس أحمد العزفي وصاحب النجم والتادلي وغيرهم:
عن الشيخ الإمام أبي الصبر أيوب بن عبد الله الفهري السبتي الدار، وكلهم ناقلٌ عن أبي العباس أحمد بن إبراهيم الأزدي إلا صاحب النجم، فإنه ناقلٌ عنهما، قال: سمعت أبا الصبر أيوب يقول: زرت أبا يعزى على حمارٍ لي، فنـزلت عنه، فقيل لي: إن حماري أكل من شعير أبي يعزى، فأشرف على الموت، فقلت للشيخ: إن حماري أكل من شعيرك فهو على الموت فقال لي: أنا وشعيري متاعك، ولن يموت حمارك فجاءني الخبر أيضًا، وتوالى وتواتر أن الحمار أشرف على الموت فأعلمته أيضًا، فقال لي: لن يموت فقلت له يموت حماري، وأنت تقول لن يموت، فقام إلى الحمار فوجدناه لاصقًا بالأرض، فأخذ بشفتيه، وبصق في فِيِه بعد ما فتحه، قام الحمار من ساعته كأنما نشط من عقال، فركبت عليه، وهذا في باب الكرامات أتم إذ صار ريقه رقية لكل شيء، وهكذا تواتر عنه رضي الله عنه: إن كل مَنْ كانت به عاهةً أو علة، ولمس عليها أو تفل عليها، وهو يلمسها ويدلكها بيده تبرأ في الحين، فهو مما تواتر عنه وشاهده الجمُّ الغفيرُ، وتواتر في كراماته وما ذلك على الله بعزيز.
ومن غرِّ مناقبه في هذا المعنى: ما نقل عن الإمام الأوحد أبي عبد الله محمد بن أبي يعلي التاودي المعروف: بالمعلم الخياط، وكان من الأئمة الثقات إذا كان قرأ على أبي الحسن بن حرازم، وكان من أصحاب الشيخ كما نذكر ذلك في الباب الرابع إن شاء الله ممن صحب الشيخ، قال: كنت عند الشيخ أبي يعزى وهو مريض، وأنا كنت قدِمْت عليه بنية الزيارة، فقلت له: ألازمك، فقال لي الترجمان عنه إذ كان لايحسن اللسان العربي: اذهب إلى أهلك، فإذا رأيتهم ارجع إليََّ، فلما وصلت إلى فاس أتاني رسوله يستدعيني، فأتيته، فوجدته قد فاق من مرضه، فأقمت عنده أيامًا، فمرض وكان ابنه أبو علي يعزى غائبًا في مكناسة، ثم وصل فكان أبو يعزى يقول: نادوا لي يعزى، ادعوا لي يعزى، واشتد حرصه على رؤيته، والناس يختلفون إلى أعز، ويأبى من الوصول إليه، فقمت إليه فقلت له: يا بني إن الشيخ يتشوَّق إلى رؤيتك فودِّعه قبل الموت، فقال لي: إنى أخاف منه، فلم أزل به إلى أن تجرَّد من أثوابه السنية التي كانت عليه، ولبس دونها من الثياب، فجاء إليه وهو يبكي، فقبَّل رأس أبيه، فنظر إليه وقال: تُبْ إلى الله يا يعزى، فقال له: تبت إلى الله يا أبت، فقال له: افتح فاك ففتحه، فبصق فيه أبو يعزى بصقةً، ثم مات الشيخ في الحين، فظهرت عليه آثار الولاية في الحين والساعة كما نذكره إن شاء الله في الباب الرابع في الذين أخذوا عنه وظهرت عليهم بركاته.
وذكر أبو يعقوب بن الزيات: عن أبي زكريا يحيى بن محمد الزناتي صاحب «نظير بتادلة» قال: قال سمعت أبا جعفر محمد بن يوسف الصنهاجي دفين تاغزوت من بلاد تادلا يقول: قلت يومًا في نفسي: ما هذا الذى يصدر من أبي يعزى؟ والله لأفعلنَّ فعلاً لايطلع عليه إلا الله تعالى حتى أنظر، أو قال: حتى أعلم حقيقة ذلك وكنت أشاركه في كل ما استعيره، فجمعت دراهم وقسَّمتها وأنا في البستان وحدي، ثم نظرت إلى عنقودِ عنبٍ فوق شجرة مرتفعة، فقلت: وددت أنه أكله الشيخ أبو يعزى ثم مر بي حنشٌ، فقلت له: والله إن عدت لأقتلنَّك فخرجت، فجاءتني امرأةٌ فدفعت إلي خمسة دراهم, فقالت لي: اعطها مَنْ يأتيك من المريدين فأخذت من دراهم أبي يعزى خمسة دراهم، وجعلت الدراهم التي أعطتني تلك المرأة فيها عوضًا عمَّا أخرجته منها، فتوجَّهت من تاغزوت إلى أيركان، فدخلت دار أبي يعزى فوجدته يصلي في بيتها، فلمَّا سلَّم قال لي: يا محمود دبِّر ورقًا أستهزأ به، فقلت له: ما ذلك؟ قال لي: ألم تقل في نفسك ما هذا الذي يصدر من أبي يعزى؟ ثم نظرت إلى عنقود عنب، فقلت: وددت أنه لو أكله أبو يعزى، ثم مر بك حنش فتواعدته بالقتل وظننته حنشًا، وإنما هو من مؤمن الجن، فناولته الدراهم، فأخرج منها خمسةَ دراهم، فقال: ما هذه دراهمي هذه دراهم فلانة، وكنت عوجت أطرفها بأسناني، فإذا هي بأعيانها فرماها من الدراهم التى أتيته بها وشارطته فيها، فعلمت حينئذٍ أنَّ الذي يصدر منه إنما هو عن فِراسةٍ صادقةٍ، وتُبْتُ إلى الله تعالى من سوء الظن به، قلت: أمَّا أبو جعفر محمود بن يوسف, فهو من أصحابه سنعرِّف به ممن أخذ عنه.
وأمَّا أبو زكريا فهو حفيد الإمام الشهير أبو محمد مع الله الزناتي، وكان عالمًا عاملاً صاحب كرامة، وإجابة الدعاء من أكابر الصديقين، وكان أبو زكريا هذا يسكن بمراكش من أكابر الصديقين.
قصد أبو محمد صالح زائرًا له في رباط آسف, فلمَّا قرب من موضعه، تلقَّته تلامذته عليهم المرقعات، وهم في وردهم من الذكر، فاعتنقوه يبكون, وهو يبكي معهم, فقال لهم: لما سكتوا من البكاء: أين الشيخ أبو محمد صالح؟ قالوا: تركناه في المنـزل، أو قال: في منـزله، فسألهم عن سبب خروجهم إليه، قالوا له: كنا معه جلوسًا إلى أن أطَّرق برأسه، ثم رفعه, فقال لنا: جاءكم رجلٌ صالحٌ، فاخرجوا إلى لقائه فخرجنا إليك، فاجتمع بأبي محمد صالح، وخلا به مع شدة انقباضه عن الناس فلما انصرف، قال لأصحابه:
ما ظننت أن بمراكش مثل هذا الرجل، وكان هذا الإمام شهير بالكرامات.
وأمَّا أبوه المدفون بنظير، فهو أوضح من نارٍ على عَلَمٍ، وذكر التادلي أنه قال: كان عبدًا صالحًا لا يعرف شيئًا مما الناس فيه، وهو أول مَنْ قرأت عليه كتاب الله تعالى، وكان من أهل التهجُّد بالقرآن، سريع الدمعة على سنن أهل الدين والفضل، ورأيته بعد موته، فسألته عن حاله فذكر خيرًا.
وقال: حدثني ابنُه أبو علي رحمه الله تعالى قال: لما حضرت أبي الوفاة رحمه الله تعالى، مد يديه ورجليه وقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر:54-55] ثم تبسم وردَّ السلام على الحاضرين من على يمينه، ثم رد السلام على من على يساره، فلقنته الشهادة، فقال بصوت رفيق: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشار بحاجبيه وخرجَت روحه يوم الثلاثاء الثالث عشر من شعبان عام أربعة عشر وستمائة هـ، ودُفن بباب الدبَّاغين.
وجده أبو محمد مع الله عام أربعة وثلاثين من القرن السادس والله أعلم.