آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم 52

ثم أن ثمرة الرجاء ونتيجته البسط وثمرة الخوف ونتيجته القبض فلذلك ذكره بعدهما فقال :

{رُبَّما أفادَكَ في لَيْلِ القَبْضِ ما لَمْ تَسْتَفِدْهُ في إشْراقِ نَهارِ البَسْطِ {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً}


القبض والبسط حالتان يتعاقبان على الإنسان كتعاقب الليل والنهار، فالليل محل السكون والقرار محل التحرك والانتشار، القبض لاحظّ فيه للنفس، والبسط تأخذ النفس حظها منه، وما لاحظ فيه للنفس أقرب للسلامة وأعظم للإفادة، فالقبض كالليل والليل محل المناجاة والمصافاة وملاقاة الأحباب ورفع الحجاب، فربما أفادك في ليل القبض من انخناس النفس وذهاب الحس وموالاة الأنس ما لا تستفيده في نهار البسط من تحصيل العلوم وتحقيق الفنون ومجالسة الأخيار ومخالطة الأبرار، فالقبض له فوائد والبسط له فوائد والعبد لا يدري أيهما أقرب له نفعاً، فتعين الوقوف مع ما يواجهه من جهة الحق فيتلقاه بالقبول والأدب. وقد تقدم آداب كل واحد منهما عند قوله :( بسطك كي لا يتركك مع القبض... الخ) فلا تطلب البسط إن واجهك بالقبض، ولا تطلب القبض إن واجهك بالبسط، فقد تستفيد من أحدهما مالا تستفيده من الآخر، فلا تدري أيهما أنفع ولا أيهما أضر، ولذلك استدل بالآية التي نزلت في ميراث الأب من الابن، فالبسط كالأب لأنه ناشىء من شهود ما منه إليك، وهو فعل الحق الذي صدر منه كل موجود وهو الأصل، والقبض كالابن لأنه ناشئ من شهود ما منك إليه وهو الفرع، إذ الفعل كله من القدرة وأما الحكمة فإنما هي تغطية، وإذا كان العبد جاهلاً بمنتفعتهما كجهله بالأنفع من الآباء والأبناء تعين متابعة الحق باتباع مراده وانتهاجه حاله من غير تحول ولا انتقال ولا تشوف إلى غير ما هو فيه من ذلك الحال، بذلك يتنور قلبه ويتطهر سره ولبه فتكشف عنه الحجب والأستار ويتهيأ لحمل الأنوار والأسرار. كما أبان ذلك بقوله :

{مَطَالِعُ الأَنْوَار، الْقُلُوبُ وَالأَسْرَار}


قلت : المطالع جمع مطلع، وهو محل طلوع الشمس وغيرها، والأنوار هنا : الواردات والكشوفات التي تكشف الحجب وترفع رداء الصون عن مظاهر الكون، وقد تقدم أن النفس والعقل والقلب والروح والسر عند كثير من الصوفية شئ واحد وما هي إلاَّ الروح تتطور بحسب التصفية والترقيّة.
فما دامت مشغولة بحظوظها وشهواتها فهي نفس ونورها مكسوف.

فإذا انزجرت وعقلت بعقال الشرع إلاّ أنها تميل إلى المعاصي والذنوب، فتارة تعصى وتتوب، وتارة تحن وتؤوب، سميت عقلا ونورها قليل، لأنها محبوسة في سجن الأكوان، معقولة بالدليل والبرهان.

فإذا سكنت عن المعاصي إلا انها تتقلَّب بين الغفلة واليقظة، وبين الاهتمام بالطاعة والمعصية سميت قلبا، وهو أول مطالع الأنوار، فتشرق عليه أنوار التوجه، فلا تزال تترادف عليه الواردات وهي أنوار التوجه، حتى يسكن إلى الله ويطمئن بذكر الله، فحينئذ تسمى روحا، وهو أول مطالع أنوار المواجهة، فبهذه الأنوار ينكشف الحجاب وينفتح الباب وتدخل في حضرة الأحباب.

فإذا تصفَّت من غبش الحس، وتطهَّرت من كدر الأغيار، سميت سرًّا، وهو أول مطالع أنوار المعاينة والمكالمة، ثم لا حال ولا مقام يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وأما الترقي في العلوم والمعارف فلا نهاية له على الأبد، فالقلوب مطالع ومشارق أنوار التوجه، والأسرار مطالع ومشارق أنوار المواجهة والمشاهدة والمعاينة، والروح والسر قريب بعضها من بعض في المرتبة فلذلك سكت الشيخ عن الأرواح لاندراجها في الأسرار.

والحاصل أن النفوس والعقول، الظلمة غالبة عليهما لانهماكهما في الحس وفنائهما في الفلس والخنس، فليستا مطلعا لشيء من النور لعدم توجههما إلى الكريم الغفور، وأما القلب والروح والسر فهي مطالع الأنوار، أي محل طلوعها وإشراقها، إلا أن القلب مطلع لأنوار التوجه والروح والسر مطلعان لأنوار المواجهة، وقد تقدم تفسيرهما عند قوله : "اهتدى الراحلون" إلخ، وقد سوى الشيخ بينهما ومراده ما ذكرناه والله تعالى أعلم.
ثم أنه بين ابتداء مطلع هذا النور وهو القلب ثم يشرق على الروح ثم السر فقال :

{نور مستودع في القلوب مدده النور الوارد من خزائن الغيوب}


قلت : النور المستودع في القلوب هو نور اليقين ويكون أولا ضعيفا كنور النجوم، وهو نور الإسلام ، ثم لايزال يتقوى ويستمد من النور الوارد من خزائن الغيوب حتى يكون كنور القمر وهو نور الايمان، ثم لايزال ينمو بالطاعة والذكر والصحبة حتى يكون كنور الشمس وهو نور الإحسان.

وخزائن الغيوب : هي أنوار الصفات وأسرار الذات فمنها تستمد أنوار الاسلام وأنوار الايمان ثم تشرق أنوار الإحسان فيتغطى وجود الأكوان.
وقال في التنوير : ولو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان.

واعلم ان وجه اصطلاح الصوفية رضي الله عنهم في ترتيب الاسلام أولا، ثم الإيمان ثم الإحسان. إن العبد مادام مشغولا بالعبادة الظاهرة الحسية سمي ذلك المقام مقام الإسلام، فاذا انتقل العمل للقلب وهو اشتغاله بتصفية القلب بالتخلية والتحلية وتحقيق الإخلاص سمي ذلك مقام الإيمان، فإذا انتقل العمل للروح والسر وهو الفكرة والنظرة سمي مقام الاحسان ، بخلاف الفقهاء فإنهم يقدمون الإيمان على الإسلام، فيقولون : لا يصح شيء دون الإيمان ولا مشاحة في الاصطلاح {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}[البقرة:60].

قال بعض المحققين : اعلم أن لعالم الملك وهو عالم الشهادة أنوار ظاهرة، ولعالم الملكوت وهو عالم الغيب أنوار باطنة. وأشهر مافي عالم الملك ثلاثة أنوار : نور الشمس ونور القمر ونور النجوم، ويقابلها من عالم الملكوت : نور المعرفة ونور الفهم ونور العلم ، فبطلوع نجم العلم في ليل الجهل تبدوا الاخرة والأمور الغيبية، وبطلوع قمر الفهم في أفق التوحيد يشاهد قرب الحق ، وبطلوع شمس المعرفة في أفق التفريد يقوى اليقين ويلوح وجه المشاهدة ، وأول نور يلج في الصدر نور الإسلام فإذا انشرح القلب به انقذف فيه نور الإيمان فإذا تقوى فيه صار شهوداً . 

قلت : وبهذا النور وسع القلب معرفة الحق، وهو الذي أشار اليه في الحديث القدسي : "لن يسعني أرضي ولاسمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن" ، فانظر هذا القلب الذي وسع الرب سبحانه ماأعظمه وماأجله، فتحبب يا أخي إلى أرباب هذه القلوب التي وسعت علام الغيوب حتى يوصلوك الى ماوصلوا اليه من علم الغيوب، وبالله التوفيق.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية