كثرت العديد من الاتهامات على مر العصور حول المتصوفة، فهناك من اتهمهم بالجنون والحمق لمَّا التبس عليهم كلامهم ولم تتجاوز عقولهم مستوى القشور؛ كما أشار إلى ذلك الغزالي في كتابه "جواهر القرآن ودرره". ولقد كان الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري موفقا حين جارى المتهمين فسمى أهل القلوب بالمجانين لكن وصفهم بالعقلاء، وجعل ذلك موضوع كتابه الموسوم بــ "عقلاء المجانين"، وعقد فيه فصلا بعنوان: "فصل: من جن من خوف الله سبحانه"، وكل الكتاب يتمحور على أقطاب وأعلام وُسِموا بالجنون وهم من المقربين الواصلين، يقول الفخر الرازي في إشارة له: "جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحد، فلذلك كان ما يشتمل عليه هذا الفن ضحكة للمغفل، عبرة للمحصل. فمن سمعه فاشمأز عنه فليتهم نفسه، لعلها لا تناسبه، وكل ميسر لما خلق له".
يقول ابن عربي في رسالته "اصطلاحات صوفية": "أما بعد، فإنك أشرت إلينا بشرح الألفاظ التي تداولها الصوفية المحققون من أهل الله بينهم، لما رأيت كثيرا من علماء الرسوم وقد سألونا في مطالعة مصنفاتنا، ومصنفات أهل طريقتنا، مع عدم معرفتهم بما تواطأنا عليه من الألفاظ التي يفهم بها بعضنا عن بعض، كما جرت عادة أهل كل فن من العلوم..."، فإذا كان للفلسفة، وللرياضيات، والعلوم الطبيعية، وغيرها من الفنون والعلوم مصطلحاتها، فالمتصوفة كذلك نلفيهم في كلامهم ينهجون في ما يسمى عند علماء البلاغة بـــ "أسلوب الحكيم" أو "القول بالموجب"؛ ويقصد بهما: "تلقي المخاطب بغير ما يترقبه، إما بترك سؤاله والإجابة عن سؤال لم يسأله، وإما بحمل كلامه على غير ما كان يقصد، إشارة إلى أنه كان ينبغي أن يسأل هذا السؤال أو يقصد هذا المعنى". ومن أمثلة ذلك قول "سمنون" لما سئل: "أي الطعام أطيب؟" فقال: "لقمة من ذكر الله في فم النفس بتوحيد الله، رفعتها من مائدة الرضا عن الله، عند حسن الظن بكرامة الله".
وقد يرمزون بحروف ورسوم لا يفهمها إلا من له دربة على خطاب القوم وصحبة طويلة لهم. ومن طرائف ذلك أن الحسين بن منصور الحلاج سئل يوما عن دينه؛ فقال: "ثلاثة أحرف لا عجم فيها ومعجومان وانقطع الكلام"، فذكر أبو المظفر الإسفراييني أنهم قالوا: أراد به التوحيد".
وعليه، فمن المصطلحات الصوفية التي يلزم درسها في ضوء المقياس اللغوي الذي اكتشفته الدكتورة سعاد الحكيم؛ مصطلح "النبي"، لما يترتب على سوء فهم هذا المصطلح من تكفير وتفسيق المتصوف في استعماله إفرادا وتركيبا. فقد حمل ابن تيمية كلام أصحاب الوحدة – وعلى رأسهم ابن عربي – في النبي على ظاهره ففهم من ذلك أنهم يقدمون الأولياء على الأنبياء، واستند شارح "العقيدة الطحاوية" إلى بعض نصوص ابن عربي في "فصوص الحكم"، ليحكم من خلال ظاهرها أن ابن عربي يفضل الولاية على النبوة والولي على النبي، ليصل إلى تكفير ابن عربي ومن على شاكلته، ونعتهم بالنفاق والزندقة، وأنهم في الدرك الأسفل من النار.
تقول سعاد الحكيم في الرد على هذه الاتهامات: "إن المطالع لكتبه أخذ عبارة مثل: "الولي أعلى من النبي"، قاطعا إياها عن سياقها الفكري، كمن يأخذ الآية: "لا تقربوا الصلاة" بمعزل عن بقيتها، جاعلا منها نصا شرعيا".
فابن عربي يقسم النبوة إلى عامة وخاصة.
أما النبوة العامة، فتستمر في الظهور بصورتين: الولاية والوراثة. فهي دون تشريع يحكمها شرع آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم. ويسمي هذه النبوة: النبوة الباطنة، ونبوة عموم، ونبوة الأخبار، ونبوة عامة، والوراثة النبوية، والنبوة المطلقة، والنبوة السارية، ونبوة الوارث، ونبوة الولي، والنبوة القمرية. وهذه النبوة تطلق على نبوة غير الأنبياء من الأولياء والورثة.
وأما النبوة الخاصة: فهي نبوة التشريع. ويطلق عليها: نبوة الأنبياء، ونبوة التكليف، والنبوة المقيدة، والنبوة المكملة، والنبوة الشمسية، والنبوة الظاهرة.
والنبوة العامة غير منقطعة فهي دائمة الوجود، بيد أن النبوة الخاصة منقطعة بذهاب خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
وبذلك فهو عندما يتكلم على "النبوة" لا يقصد أشخاصا، بل يقصد مرتبة ومقاما، وليس "عيسى" و "موسى"، إلخ. وإن أطلقها على عيسى وموسى عليهما السلام، فهي لا تحتويها بل نسبة ووجه من وجوهها.
فالنبوة – بمفهومها العام، أي الولاية، لا بمفهومها التشريعي – صفة لا ذات، وهي تتحقق في أعيان هم غير النبي المرسل. أما نبوة التشريع فذاتية لا تتحقق إلا في النبي المرسل.
والنبي من حيث كونه وليا وعارفا أعلى وأشرف من حيث كونه رسولا. لأن هذه منقطعة بموته وتلك دائمة.
والحاصل أن النبي أشرف من الكل وأعلى لأنه رسول ونبي وولي، وغيره وإن تحققت فيه صفة الولاية فهم أقل شرفا منه لانتفاء النبوة التشريعية فيهم، وهذا هو مؤدى قول ابن عربي: "فخاتم الرسل من حيث ولايته، نسبته مع الخاتم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه، فإنه الولي الرسول النبي".
الدكتورة حكيمة شامي
بوركتم
ردحذف