آخر الأخبار

جاري التحميل ...

في خواتيم الناس عجبٌ عجابٌ

في خواتيم الناس عجبٌ عجابٌ

يختلف حال المحتضرين ما بين عبادٍ يُختم لهم بالخير جزاءً وثواباً على أعمال الخير، وآخرون يختم لهم بخاتمة سوء عقوبةً لهم على أعمالهم السيئة. فقد روى الإمامان البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يدركه ما سبق له في الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يدركه ما سبق له في الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)1.

وكثرت عجائب الروايات ،والتي تشير إلى حُسن أو سوء العاقبة. قال ابن رجب: "إن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمله ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة".2

وفي جانب الخير، حوادث تبعث على الانشراح والسرور ، ومما روي في ذلك: "قيل للإمام الجنيد عند موته: قل لا إله إلا الله. فقال: ما نسيته فأذكره"3.ولما احتضر الإمام ابن عساكر جعلوا يقولون له: يا سيدي ماذا تجد؟ فلا يقدر على النطق. فكتب بأصبعه في الهواء: : (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ)4. ثم مات رحمه الله.

أما في جانب الشر، فذكر صاحب الداء والدواء ( الجواب الكافي ) ما يلي:

- لما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة كان فيمن هاجر إليها أم حبيبة وزوجها عبيد الله بن جحش، وهناك ارتد عبيد الله وتنصر ومات هناك نصرانيًا على ملة أهل الصليب.5

- وروى الإمام البخاري عن سهل بن سعد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل لا يدع لهم شاذَّة ولا فاذَّة (ما صغر وكبر) إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (أما إنه من أهل النار)، فقال رجل من القوم : أنا صاحبه "ألازمه" .. قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحا شديدا، فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض، وذبابه "طرفه الذي يضرب به" بين ثدييه ثم تحامل على نفسه فقتل نفسه .فخرج الرجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : أشهد أنك رسول الله، قال : وما ذاك؟ ، قال : الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك ، فقلت : أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جُرِح جرحا شديدا فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه .. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند ذلك : إن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها).

ومن أعجب ما حكى الإمام ابن كثير عن أبي علي البكاء، وكان مشهورًا بالصلاح والعبادة والإطعام لمن قربه من المارة والزوار، يقول: إنه خرج معه رجل من بغداد، فانتهوا في ساعة واحدة إلى بلدة بينها وبين بغداد مسافة بعيدة، وأن ذلك الرجل قال له إني سأموت في الوقت الفلاني فأشهدني في ذلك الوقت. قال: فلما كان ذلك الوقت حضرتُ عنده وهو في السياق – الاحتضار - وقد استدار إلى جهة الشرق (جهة بيت المقدس قبلة النصارى)، فحولتُه إلى القبلة فاستدار إلى الشرق، فحولتُه أيضا ففتح عينيه وقال: لا تتعب نفسك فإني لا أموت إلا على هذه الجهة. وجعل يتكلم بكلام الرهبان حتى مات!!. فحملناه فجئنا به إلى دير هناك فوجدناهم في حزن عظيم، فقلنا لهم: ما شأنكم؟ فقالوا: كان عندنا شيخ كبير ابن مائة سنة، فلما كان اليوم مات على الإسلام. فقلنا لهم: خذوا هذا بدله وسلِّمونا صاحبنا. قال: فوليناه فغسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين، وولوا هم ذلك الرجل فدفنوه في مقبرة النصارى.6

والحاصلُ أن الخواتيم صور الأعمال، ومرايا لحقائق الأحوال ،مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ)7، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)8. فكم من ناصية خاشعة أمام الناس قد حُرمت من حسن الخاتمة،. وكم من راكبِ أمواج البحر نجا من غرقه وبلغ شاطئ النجاة.

لذا لما دخل المزني على الشافعي رحمة الله عليهما في مرضه الذي توفي فيه ،قال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولسوء عملي ملاقيا، ولكأس المنية شاربا، وعلى الله تعالى واردا، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها؟ ثم أنشأ يقول:

ولما قسا قلبي وضاقت مــذاهبي *** جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعــاظ مني ذنبي فلمـا قرنتــه *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل *** تجود وتعفو منـة وتكرمــا
ولولاك لم يغـوى بإبليس عــابد *** فكيف وقد أغوى صفيك آدمـا

** ** **
1 ـ صحيح البخاري، كتاب القدر(حديث رقم 6221)،وصحيح مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته(حديث رقم 2643 )
2ـجامع العلوم والحكم: 1/ 172.
3ـ التذكرة للقرطبي :1 / 34.
4 ـ الواقعة:: 89
5ــ رواه أحمد في مسنده(حديث رقم 27408)
6 ـ البداية والنهاية:13/143.
7 ـ رواه البخاري في صحيجه (حديث رقم 6607)
8 ـ رواه أبو داود في سننه (حديث رقم 3116 ) وحسَّنه الألباني في إرواء الغليل : 3 / 149.

ذ. محمد المدني


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية