ما يتعلق بالسماع
وأما ما يتعلق بالسماع، ونشد الأشعار التي تستعمل عند أكثر الصوفية، فأقول : إن القول فيها بغير علم أدهى مما قبله، لأن الصحابة رضوان الله عليهم، تناشدوا الأشعار بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي قصة كعب بن زهيركفاية لمن تدبرها، كيف استمع منه النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته المعروفة (ببانت سعاد) مع ما فيها من التغزلات، وكيف جزاه بالعفو والبردة، زيادة له عن تقريره له في إنشاد الشعر بحضرته، قال في "العوارف" : (إن رجلا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عنده قوما يقرءون القرآن، وقوما ينشدون الشعر، فقال : يا رسول الله قرآن وشعر ! فقال صلى الله عليه وسلم :من هذا مرة ومن هذا مرة). وقد أطنب صاحب .الإحياء" في الرد على من يقول بكراهة السماع، أو من يقول بتحريمه مطلقا، لما تعارضه من النصوص التي لا تحتمل التأويل، ومن ذلك ما رواه العلقمي عن ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما رجع للمدينة من بعض مغازيه، جاءته جارية فقالت يا رسول الله : إني نذرت إن ردك الله سالما أن نضرب بين يديك بالدف ونغني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نذرت فأوفي بنذرك). وقوله أيضا : (احدوا يا بني أرفدة حتى تعلم اليهود والنصارى أن في دينكم فسحة).
وبالجملة فإني أقول في الشعر، كما قال عليه الصلاة والسلام : (هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح). فما كان متعلقا بالفواحش والتفاحش فهو محرم، وعليه تحمل سائر الأقوال التي جاءت لتحريمه، فيكون القائل والسامع شريكين، إن كان القصد متحدا، وأما إن كان موضوعا للترغيب والترهيب، والتشوق للأحوال السنية والترشيح بالمعارف الإلهية، كالمشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام : (أصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللَّهَ باطِلٌ). فيكون مدخول قوله عليه السلام : (إن من الشعر لحكمة). ولا يخفى أن استماع الحكمة مندوب، إن لم نقل فيه بالوجوب، وإذا فهمت هذا فلا تقس ما اعتاده القوم في مجالسهم من نشد الأشعار التي تلائم من الحكمة أعلاها، وتحوي من المعارف أقصاها، تعليما للمريد كيف يسلك سبل ربه ذللا، على ما اعتاده السفهاء من مدح القدود، والخدود والنهود، إغراء للسامع على ارتكاب الفسوق والفجور، {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.