ثم ذكر ثمرة النور وهي الكشف عن حقائق الأشياء فقال :
(نُورٌ يَكْشِفُ لَكَ بِهِ عَنْ آَثَارِهِ ، وَنُورٌ يَكْشِفُ لَكَ بِهِ عَنْ أَوْصَافِهِ)
قلت : أصل النور من حيث هو الكشف ، فالنور الحسي يكشف عن المحسوسات والنور المعنوي يكشف عن المفهومات ، أو تقول نور الحس يكشف عن الأواني والنور المعنوي يكشف عن المعاني ، ولا عبرة برؤية الأواني خاوية من المعاني ثم أن النور المعنوي ينقسم على ثلاثة أقسام باعتباره القوة والضعف.
فنور الإسلام الذي هو كالنجوم يكشف لك الحق تعالى به عن وجود آثاره فتستدل بها على صانعها.
ونور الإيمان الذي هو كالقمر يكشف لك به عن ثبوت أوصافه فلا يترحك شئ أو يسكن إلا تراه بقدرة الله وإرادته وعلمه وحياته إلى آخر صفاته.
ونور الإحسان يكشف لك به عن حقيقة ذاته فلا ترى شيئاً إلَّا رأيت صانعه فيه بواسطة تجلياته، {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النّور:35) فنهاية كشف النور الأول الفناء في الأفعال ونهاية كشف النور الثاني الفناء في الصفات ونهاية كشف النور الثالث التمكين في الفناء في الذات.
واستغنى الشيخ عن النور الثالث بذكر النور لثاني لأن الفناء في الصفات قريب من الفناء في الذات لأن الصفات لا تفارق الموصوف، فمن كان يرى سمعه بالله وبصره بالله وحركته بالله يري وجوده بالله ولذلك استغنى بعضهم بالفناء في الذات عن الفناء في الصفات لتقاربهما فمهما تحقق أحدهما تحقق الآخر والله تعالى أعلم.
ويحتمل أن يريد بقوله : نور يكشف لك به عن آثاره النور الحسي المدرك بالبصر الحسي ونور يكشف لك به عن أوصافه نور البصيرة المعنوي، وعليه اقتصر الشيخ ابن عباد [النفري] رضي الله عنه، لكن نور البصر الحسي لا يستقل بادراك المؤثر في الأثر ما لم تمده الأنوار الباطنية العقلية، فالمدار إنما هو على الأنوار الباطنية، وأما الحسية فمدركة لكل أحد حتى البهائم فلا خصوصية لها وبالله التوفيق.
ثم المطلوب من العبد هو الترقي من نور شهود الأثر إلى نور الصفات، ثم إلى نور شهود الذات وقد تقف بعض القلوب مع النور الأول فتحجب عن الثاني، ومع الثاني فتحجب عن الثالث، كما إبان ذلك بقوله :
(رُبَّمَا وَقَفَتِ الْقُلُوبُ مَعَ الأَنْوَارِ كَمَا حُجِبَتِ النُّفُوسُ بِكَثَائِفِ الأَغْيَارِ)
قلت : قد تقف بعض القلوب مع أنوار المقامات دون الوصول إلى الغايات فتحجب عن الوصول كما حجبت النفوس بكثائف الأغيار.وذلك أما لعدم وجود شيخ التربية أو لضعف الهمم عن الترقية، فقد ينكشف لبعض القلوب عن سر توحيد الأفعال فتفنى في العمل وتذوق حلاوته، فتقف مع وهواتف الحقيقة تناديها الذي تطلبه أمامك.
وقد ينكشف لها عن سر توحيد الصفات وتلوح لها أنوار المقامات كتحقيق الزهد واورع وصحة التوكل والرضى والتسليم وحلاوة المحبة والاشتياق إلى غير ذلك فتقنع بذلك وتقف هنالك، والمطلوب هو الكشف عن سر توحيد الذات وأنوار الصفات {وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ} (النجم : الآية 42).
فالنور عبارة عن الحلاوة والقوة التي يجدها المريد في باطنه من مزيد إيمان وقوة إيقان، فحلاوة الخدمة لأهل الفناء في الأفعال، وحلاوة الذكر الحسي اللساني أو القلبي لأهل الفناء في الصفات، وحلاوة الفكرة والنظرة لأهل الفناء في الذات.
وإن شئت قلت : ربما وقفت القلوب مع أنوار الأحوال فتحجبت عن مقامات الرجال،أو مع أنوار المقامات فتحجبت عن معرفة الذات، ولذلك قال الشيخ ابن مشيش لتلميذه أبي الحسن :" أشكو إلى الله من برد الرضى والتسليم كما تشكو أنت من حر التدبير والاختيار" . واعلم أن الوقوف مع الأحوال أو المقامات إنما هو من عدم الوصول إلى الشيخ وأما من صحب الشيخ وأكثر الوصول إليه فلا بد أن يرحله إلى المقصود إلا أن يرى همته ضعيفة لا تطيق أنوار الشهود فيتركه على ما هو عليه حتى تنهض همته إلى شهود المعبود.
وشبه الشيخ رضي الله عنه حجب القلوب بالأنوار وحجب النفوس بالأغيار، لاشتراكهما في الحجب عن الله لكن حجب النفس بالأغيار أشد لأنها ظلمة والظلمة أشد حجاباً من النور، فالقلوب نورانية حجبت بالنور والنفوس ظلمانية حجبت بالظلمة ،وكثائف الأغيار هي ما ظهر من بهجة الدنيا وزخرفها وغرورها وزهرتها وهي التي أشار إليها الحق تعالى بقوله :{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ...} الخ الآية، ويدخل فيها ما يلائمها من حب الجاه والرياسة وحب المدح والتعظيم وغير ذلك من شهواتها وعوائدها، وهي التي حجبت جل الناس وساقتهم إلى الخيبة والإفلاس نسئل الله العصمة بمنة وكرمه.
ويدخل في الأغيار العلوم العقلية واللسانية فالاشتغال بها والوقوف مع حلاوتها من أشد الحجب عن معرفة الله، أعني المعرفة الخاصة، ويدخل فيها أيضاً الكرامات الحسية كالطيران في الهواء والمشي على الماء، فالوقوف مع ذلك من أشد الحجب أيضاً ولذلك قال بعضهم:" أشد حجاباً عن الله العلماء ثم العباد ثم الزهاد، فسبحان من حجب العلماء بعلمهم عن معلومهم، والعباد بعبادتهم معبودهم، والصالحين بصلاحهم عن مصلحهم والله من وراء ذلك كله وفي ذلك كله".
وحكمة وجود هذه الأنوار الحسية والأغيار الظلمانية تغطية وستر لأنوار السرائر الباطنية، كما أبان ذلك بقوله :
(سَتَرَ أَنْوَارَ السَّرَائِرِ بِكَثَائِفِ الظَّوَاهِرِ ؛ إِجْلاَلاً لَهَا أَنْ تُبْتَذَلَ بِوُجُودِ الإِظْهَارِ وَأَنْ يُنَادَى عَلَيْهَا بِلِسَانِ الاشْتِهَارِ)
أنوار السرائر هي العلوم اللدنية والمعارف الربانية،ويجمعها علم الربوبية الذي يجب كتمه عن غير أهله، ومن أباحه أبيح دمه وهو الذي قتل بسببه الحلاج، وكثائف الظواهر هي البشرية الظاهرة أو تقول : أنوار السرائر هي الحرية الباطنية وكثائف الظواهر هي علم الحكمة الظاهرة فأنوار السرائر معان لطيفة رقيقة سترها الله تعالى بالكثائف الظاهرة ولذلك وقع الإنكار على أهلها قديماً وحديثاً حتى قال الكفار :{ مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} وقالوا : { مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }.
ووقوع الإنكار على أولياء الله سنة ماضية، وحكمة ذلك إجلال وتعظيم لها أن تبتذل وتظهر بوجود الإظهار، وأن ينادي عليها بلسان الاشتهار، فلا يبقى لها سر ولا عز،ولهذا طلب الأولياء بالخمول واستعمال الخراب والتلبيس.
ويحتمل أن يريد بأنوار السرائر معاني الصفات السارية في الذات وبكثائف الظواهر المحسوسات الظاهرة، فلا ظهور للصفات إلا بالذوات الحسية، ولا قيام للذوات إلا بالصفات فستر الله سبحانه صفاته الأزلية اللطيفة بظهور الذوات البشرية الكثيفة، صونا لسر الربوبية أن يبتذل بالإظهار أو ينادي عليه بلسان الاشتهار .
والحاصل : أن الأشياء كلها قائمة، بين ذات وصفات بين حس ومعنى، بين قدرة وحكمة، فستر الحق سبحانه معاني أسرار الذات اللطيفة، بظهور الذوات الكثيفة، وستر المعنى اللطيف بالحس الكثيف وستر القدرة بالحكمة والكل من الله وإلى الله ولا موجود سواه وهذه الكثائف الظاهرة هي أردية وقمص للمعاني اللطيفة .
أو تقول : هي رداء الصون الذي نشر على الكون، فإذا انهتك الرداء أو قطع بقي المعنى سالماً، فالتصرفات القهرية إنما تجر الأردية والستور، دون المعاني والنور، فالحق منزه ومقدس أن يلحقه ما يلحق العبيد، فلتكف عن طلب المزيد والعجز عن الادراك من وصف العبيد، وقد مثلوا أيضاً كمون المعاني اللطيفة في الأشباح الكثيفة بالحبوب اليابسة في الأغصان الرطبة، فهي كامنة مستترة، فإذا نزل المطر اخضرت الأشجار وأخرجت الثمار، التي كانت كامنة فيها. وإلى هذا المعني أشار ابن البناء في مباحثه الأصلية حيث قال
حتى إذا أرعدت الرعود ... وانسكب الماء ولأن العود
وجال في أغصانها الرياح ... فعندها يرتقب اللقاح
خلاصة ما ورد في الباب السادس عشر
هذا آخر الباب السادس عشر وحاصلها : آداب السائر في حال سيره بحيث لا يقف مع معصية ولا يركن إلى طاعة، ولا يغلب عليه خوف ولا رجاء ولا قبض ولا بسط، بل يبرز من الغيب فيتلقاه بالمعرفة والرحب فإذا فعل ذلك أشرقت عليه الأنوار فتخرجه من رق الآثار حتى تفضى به إلى شهود الملك القهار لكن لا بد للحسناء من نقاب، وللشمس من سحاب ولليواقيت من صوان، فخفيت الأنوار بكثائف الأغيار، إجلالاً لها أن تبتذل بوجود الإظهار ، وأن ينادي عليها بلسان الاشتهار، فمن أجل ذلك أخفى أوليائه في خلقه فلا يطلع عليهم إلا من أراد أن يخصه بما خصهم به من سره كما بان ذلك في أول الباب السابع عشر بقوله :