يقول سيدي أبو مدين الغوث رضي الله عنه : السالك ذاهبٌ إليه، والعارف ذاهبٌ فيه.
السالك ذاهبٌ إليه ؛ لأنه في البداية، والعارف ذاهبٌ فيه ؛ لأنه في النهاية.
فابتداء السالك من الأكوان، وانتهاء العارف إلى مقام الإحسان.
فالسالك سائرٌ من عالم طبيعته إلى عالم الملكوت، ومنه إلى عالم الجبروت، ومنه إلى حضرة اللاهوت؛ حضرة تنمحي فيها العبارة والإشارة،وتذهب الأسماء والرسوم، ولا يبقى هناك مشهود إلاَّ الحيُّ القيُّوم، فإذا ظهرت شمس المعرفة ذهبت بقوم التفرقة، ولا يشهد المنتهى إلاّ مولاه، ولا يظهر له فعل ولا وصف ولا وجود إلّا الله.
مَن عرف الله شهده في كل شيء، فلا يستوحش من شيء، ويستأنس به كل شيء، ويشهد معنى : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ}[القصص:88].
ويفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم :أصدق كلمة قالها لبيد، قول لبيد :ألا كل شيء ما خلا الله باطلٌ
وتشرق عليه لمعة من قوله تعالى : {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد:3].
ويتحلَّى بخلقه : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة:115]، ويرتفع عنه اشتباه معنى قوله عزَّ من قائل : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16].
ويسمع بالحق، ويبصر بالحق، وينطق بالحق؛ لأن الحق يكون حينئذ سمعه وبصره ولسانه، كما في الحديث القدسي : (فإذا أحببتُهُ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به).
والحاصل : إن العارف يصل إلى حالة يفنى فيها عن أفعاله وأوصافه وذاته، وهذا يُسمَّى جمعاً، ومع ذلك لا يحجبه جمعه عن فرقه، ولا فرقه عن جمعه، ولا صحوه عن سكره، ولا سُكره عن صحوه، كما قال العارفين :
لَه لَدى الفَرق جمعٌ يستضيء به كالفرقِ في جَمعهِ ما زالَ يلقيه
في ريّْه ظمأٌ والصحوُ يُسكرهُ والوجدُ يُظهرهُ طُوراً ويُخفيه
ويوضح لك ثمَّة من ذلك قوله تعالى : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ}[الأنفال:17].
فنفى عنه الرمي أولاً بقوله : {وَمَا رَمَيْتَ} وهو عين الجمع، وأثبته ثانياً بقوله : {إِذْ رَمَيْتَ} وهو عين الفرق، ثم قال : {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ} أي : أن الرمي منسوبٌ إلى الله تعالى إيجاداً، وإليك إسناداً؛ وهذا هو حقيقة الجمع.
فنسبة الأشياء إلى الله إيجاداً جمع، ونسبتها إلى مواضعها إسنادا فرق، وهذا في فرق الأفعال وجمعها، وفوقه الفرق في الصفات وجمعها، وفوق الجمع في الذوات وجمعها، ومَن لم يتحقَّق بالفرق الأول وجمعه حالاً وذوقاً لا يفهم ثمة من الفرقين والجمعين الآخرين؛ ولكن مقام الإيمان يسع ذلك كله، فيؤمن السالك في البداية بما انكشف للعارفين في النهاية على ما فهموا من غير أن يخوض فيها بفهمه، وهذه ولاية صغرى، كما قال الجنيد رضي الله عنه : (التصديق بطريقتنا هذه ولاية صغرى).
فيا أيُّها المؤمن المصدِّق بهذه المقامات جانب الخلق، وعد نفسك من الأموات.