باب المحاسبة
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر:18]
(وَإِنَّمَا يسْلُكٌ طَرِيقَ المُحَاسَبَةِ بَعدَ الْعَزِيمَةِ على عَقدِ التَّوْبَةِ)
وجه الاستدلال بالآية على المحاسبة : أنَّ نظرَ النفس فيما قدَّمت للآخرة - وهو العملُ - يستلزم وقوفَه على ما يصدر منه من الحسنات والسيِّئات، فإن كانت الغلبةُ للسيِّئات، فالتقوى المأمور بها توجب تكثير الحسنات وتنقيص السيئات، ولا يكون ذلك إلا بالمحاسبة و"سلوك طريق المحاسبة" عند المشايخ بعد إحكام حقاق التوبة.
و"العزيمة" تحقيق القصد والاستمرار عليه. و"العقد هو العهد الموثَّق. فالعزيمة على عقد التوبة هو الإيفاء بما عقد عليه وأحكم نيَّته، ممَّا عهد الله إلى عباده في كتبه من الإيمان والتوبة وغير ذلك. قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1].
أحدها : أن تقيس بين نعمته وجنايتك، وهذا يشقّ على من ليس له ثلاثة أشياء: نور الحكمة، وسوء الظن بالنفس، وتمييز النعمة من الفتنة.
أي أن تقيس بين نعمة الله عليك وجنايتك؛ فتعلم أن حقَّ النعمة أن تشكر - وقد كفرته - فتقيس حسناتك - التي هي باب شكر النعمة - إلى سيئاتك التي هي من باب كفرانها؛ فتحاسب نفسَك، لتعلم أيُّها أرجح.
وإنما يتوقَّف تيسيرها على الأمور الثلاثة، لأن "نور الحكمة" هو علم الفقه، ولا يمكن الاقتداء إلى معرفة الحسنة والسيِّئة إلا به.
و"سوء الظنِّ بالنفس" اعتقاد أنها مأوى الشرِّ، ليغلب على ظنِّه أنها لا تفعل خيراً خالصاً لوجه الله أصلاً، إلا أن يرحمه الله تعالى كما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام : : {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}[يوسف:53] فيمكنه إتقان تفتيش عيوبها، وهو الحزم؛ فإنه مع حسن الظنِّ في حقِّها لا يكاد يرى عيبها.
و"أما تمييز النعمة من الفتنة" هو أن تفررِّق بين النعم التي يراد بها الإحسان، والنعم التي يراد بها الاستدراج. فإن الأولى هي التي تجمعك على الله تعالى بأن تشاهدها منه، ولا تميل بك إلى الغير. والثانية هي التي تفرِّقك عن الله تعالى بالنظر إلى الغير.
وَالثَّانِي : تَمْيِيزُ مَا للحَقِّ عَمَّا لَك أَو مِنْكَ فَتَعْلَمَ: أَن الْجِنَايَة عَلَيْك حُجَّة; وَالطَّاعَةَ عَلَيْكَ مِنَّةٌ; وَالْحُكْمَ عَلَيْكَ حُجَّة مَا هُوَ لَكَ مَعْذِرَة.
الركن الثاني هو أن تميِّز بين ما للحق عليك من الفرائض والواجبات التي هي الطاعات - فإنها منَّة لله عليك - وبين مالك نفعه أو ما منك يصدر حتى تستحقَّ به عليه أجرا. فإن العبد لا يستحقُّ بالعمل أجرا؛ إذ القيام بحقِّ العبوديَّةَ واجبٌ، ولا تفي طاعتك بشكر نعمه؛ فإنها نعمة أُخرى منضمَّة إلى سايرها فليس لك بها أجر.
وكذا الناية عليك حجَّة، لكونها من مقتضيات عينك، فهي منك - جنيتَ بها على نفسك وعرَّضتها للعقاب - وقد أوجب عليك الاجتناب منها.
"والحكم بها" أي حكم الله تعالى قي قضائه وقدره بها أيضاً حجَّة عليك؛ لأن الحكمَ بها تابعٌ للعلم، والعلم تابعٌ لما عليه عينك؛ فلا تكون الجدَّة عليك معذرة لك، فإن ظننت أن الحكم عذرٌ لك فلست من هذا المقام في شيء.
الثَّالِثُ: أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ رَضِيتَهَا مِنْكَ فَهِيَ عَلَيْكَ، وَكُلَّ مَعْصِيَةٍ عَيَّرْتَ بِهَا أَخَاكَ فَهِيَ إِلَيْكَ. وَلَا تُضِع مِيزَانَ وَقْتِكَ مِن يَدَيْكَ.
إنما الطاعة المرضيّ بها عن نفسك عليك، لأنك إذا رضيت بها فقد توهَّمت أنك وفَّيتَ حقَّ الله تعالى بها، ورضيت من نفسك بأنها أدَّت ما عليها من حقِّ الله تعالى وأيُّ طاعة منها منها تليق بحضرة سيِّدها ؟ ومتى أدَّت حقَّّه ؟ وكيف وفَّيت بها حقَّه - وهي حقٌّ منه عليك - ؟ فإذا رضيتها له، فهي عليك - لا لك.
وإنما تعييرك أخاك بمعصيةٍ رجوع المعصية إليك، لأنه إذا عيَّرته بها فقد نزَّهتَ نفسكَ منها وبرَّأتها، ورضيتَ منها، وأعجبت بعصمتها، وظننت أنك خيرٌ منه. فمعصيتك أكثر من معصيته؛ فقد آلت المعصيةُ إليك أفحش وأعظم مما كانت عليه؛ إذ عسى الله أن يعفو عنه، ويغفر له ذنبه، ويعاقبكَ بها.
ثمَّ إن الشيخ رضي الله عنه نصحك وقال : فلا تضع ميزان المحاسبة بالعدل من يديك في تمييز هذه الأشياء وموازنتها على ما ينبغي، حتى لا تضيع وقتك؛ إذ الخلل في الموازنة في وقت المخاسبة تضييعٌ له.