فصل : عساك تقول إذا كان في الآدمي صفات السِّباع والبهائم والشيطان والملائكة فبأي شيء يعلم أن أصله الجوهر الملكي وبقيّة الصفات غريبة غير أصلية، وكيف يعلم أنه خُلق لأجل أخلاق الملائكة فيحصّلها دون بقيّة الصفات والأخلاق.
واعلم أنك إنما تعرف ذلك إذا صحَّ عندك أنّ الآدمي أشرف وأكملُ من البهائم والسباع وغيرهما، فإنّ كل شيء أُعطي كمالا هو غاية درجته ونهاية منزلته كان مخلوقاً لذلك، مثاله الفرس أشرف من الحمار من أجل أنّ الحمار خُلِق للحمل والفرس خُلق للعدوِ في الجهاد والمحاربة ليصرفه الفارس تَحتَه حيث شاء وكيف شاء، وله طاقة بالحمل أيضا كالحمار، وتفضُّلُه بالجري الذي يقصر الجماعة عنه، فإذا عجز الفرس عن كماله الذي خُلق له إُعيد إلى درجة الحمار في نقل الأحمال ووُضعَ عليه الإكاف لحمل الأثقال فيكون ... من كماله ونقصاً في حقه...
واعلم أن قوما اعتقدوا أن الآدمي مخلوق...والتمتع بالجماع ويفنون أعمارهم في ذلك، وقوما اعتقدوا أنهم مخلوقون للقهر والغلبة كالترك والعرب والأكراد فيذهبون مدّة حياتهم في ذلك، وكل هذا خطأ فيه، فإن الأكل والجماع يكونان من الشهوة، وهذا شيء مُنِحَتهُ البهائم لم يختص به الآدمي دونها، فإن الجمل مثلًا أكثر أكلاً من الآدمي والعصفور أكثر مجامعة منه، فكيف يكون الآدمي أشرف من هذه الأشياء، وأمّ الغلبة والاستيلاء الصادران عن الغضب فقد مُنحته السِّباع، والآدمي قد أُعطي ما أوتِيَتهُ البهائم والسِّباعُ وخصّ بزيادة من كماله، وتلك إنما هي العقل الذي يعرفُ به خالقه ويقف على عجائب صُنعه ويُخلِّصُ به نفسَه من يد الشهوة التي هي للبهائم والغضب الذي هو للسباع وهذه صفة الملائكة، فهو مستولٍ بها على البهائم والسباع والكلّ مُسخَّرٌ له مع كل ما على وجه الأرض كما قال تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[الجاثية:13] فإذن حقيقة الآدمي ما كان به كماله وشرفُه وما سوى ذلك فصفة غريبة جُعِلت مَدداً له وعوناً على مصالحهِ، ولهذا إذا مات وقد كفَّ غضبه وشهوته بقي جوهره نورانيًّا مُضيئاً مُحلّا مُزيّناً بمعرفة الله تعالى على صورة الملائكة ليكون رفيقاً لهم، وهؤلاء بالحضرة الإلهيّة مُحلّون لا يغيبون عنها كما قال الله تعالى : {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}[القمر:55]وأما أن لا يكفّ عن الأوصاف الذميمة فتستولي ظُلمة المعصية وصَداء الخِلال الذميمة الحاصلة من ميله إلى الشهوة والغضب وسكونه إليهما وإلى غيرهما مما كان يميل إليه في الدنيا، فإذا مات كان تطلُّعه إلى ما كان خلقَه فيها، ووجّه قلبه إلى ما كان يحبُّه ويهواه منها وهذه الدنيا تحت الآخرة فيُنكّس .. على دنيا.وهذا معنى قوله تعالى : {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ}[السجدة:12] ولهذا يطلبون الرجعة إلى دار الدنيا ومن كانت هذه حاله كان مع الشياطين في سجّين، ولا يكاد يعرف معنى سجّين كلّ أحد قال الله سبحانه :{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}[المطفّفين - 8].