الباب الأول : في معرفة أولياء الله وأنهم لا ينقطعون
قال الله سبحانه وتعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:62] فالأولياء جمع ولِيٍّ وهو كما قال المحقِّق ابن حجر المكّي : فعيل بمعنى فاعل؛ لأنه والى الله سبحانه وتعالى ورسوله، فلم يخرج عن أمرهما ونهيهما إلى ما يغضبهما، أو مفعول لأنّ الله تعالى والاه بخوارق نعمه وسوله، والاه بمزيد إمداده وكرمه، وضابط الوليّ أنه المُداوم على فضل الطاعات، واجتناب المعاصي، المُعرِض عن عن الانهماك في اللّذّات كذا قالوه. قال رحمه الله تعالى : ويتجه أن هذا ضابط الوليّ الكامل، وأن أصل الولاية يحصل لمن وُجدت فيه صفة العدالة الباطنة بالشروط المذكورة عند الفقهاء. قلت : وهذا من فضل الله تعالى كثيرًا فى هذه الأمة في كل زمان، ببركة نبيِّنا محمّد سيِد الأكوان صلى الله عليه وسلم في كلِّ حينٍ وآن.
قال ربُّنا سبحانه وتعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110]قال الإمام ناصر الدين البيضاوي :"دلّت الآية على خيريَّتِهِم فيما مضى ولم تدلّ على انقطاع طَرَءَ"، وقال نبيُّنا صلى الله عليه وسلّم : (لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ) [رواه البخاري ومسلم]. وقال صلى الله عليه وسلّم : (لا تسبُّوا أهلَ الشَّامِ فإنَّ فيهِمُ الأبدالَ)[رواه السيوطي في الجامع الصغير] وزاد الشارح المناوي، وفي روايته : (وبِهِمْ تُنْصَرُون وَبِهِمْ تُرْزَقُون) قال رحمه الله تعالى : "وفيه ردّ على مَن أنكروجود الأبدال كابن تيميّة. انتهى.
وفي كتاب الأبدال عن أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : (البُدَلَاء أَرْبَعُون) وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال : (لَولا البُدَلاء لَخُسِفَ بالأَرض) وخرَّج السمرقَندي فيه قال : "لمّا قُبِضَ النبي صلى الله عليه وسلّم شَكَتء الأرض إلى ربِّهَا عزّ وجلّ أنّه ما بقِيَ يمشي عليّ نبيّ من الأنبياء إلى يوم القيامة، فأوحى الله تبارك وتعالى إليها إني جاعلٌ من هذه الأمة رجالا قلوبهم كقلوب الأنبياء" قال السمرقندي والقُطب هو المُقدّمُ عليهم. انتهى.
قال العلّامة ابن حجر في شرح الهمزيّة : "إنّ الله تعالى خصَّ هذه الأمّة في التوراة بخصائص لم يؤتها لغيرهم تكرمة لنبيِّهِم وزيادة في شرفه، ثمّ عدَّ منهاإلى أن قال : وإنّ فيهم أقطاباً وأوتاداً ونُقباء ونُجباء وأبدالا أي لا ينقطعون.
قال الشيخ أحمد، الشهير بالأعرج في كتاب مواعظه : "وأخفى الله تعالى وليّه بين الناس ليعظّموا الكلّ، كما أخفى الاسم الأعظم ليعظِّموا كلّ الأسماء، والصلاة الوُسطى ليُحافظوا على كلِّ صلاة، وساعة الإجابة في الجمعة ليُداوموا على على الدّعاء في كلِّ الجمعة، وليلة القدر ليُحيي من أراد يريدها ليالي كثيرك، ورضاه في الطاعة ليرغبوا في الكلّ، وغضبه في المعاصي ليتجرَّدوا عن الكلّ، ووقت الموت ليكون المكلّف على احتياط في جميع الأوقات.
وكان الشيخ محيي الدين العربي قُدس سره يقول : ومن أين لعامة الناس أن يعلموا أسرار الحق تعالى في خواص عباده من الأولياء، وشروق نوره في قلوبهم، ولذلك لم يجعلهم إلا مستورين عن غالب خلقه؛ لجلالتهم عنده، ولو كانوا ظاهرين فيما بينهم وآذاهم إنسان لكان قد بارز الحق تعالى بالمحاربة، فأهلكه الله تعالى، فكان سترهم على الخلق شفقةً على من آذاهم، ومن ظهر من الأولياء للخلق إنما ظهر لهم من حيث ظاهر علمه ودلالته، وأما من حيث سر ولايته فهو باطن لم يزل.
وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي قُدِّس سره يقول: لكلِّ ولي سترٌ أو أستار نظير السبعين حجابًا التي وردت في حق الحق سبحانه وتعالى، حتى أنه لم يعرف إلا من ورائها فكذلك الولي. فمنهم: َمن يكون سره بالأسباب، ومنهم من يكون سره بظهور العزة والسطوة والقهر على حسب ما يتجلَّى الحق تعالى لقلبه، فيقول الناس: حاشا لله أن يكون هذا وليًّا لله تعالى، وهو في هذه النفس أو التعاظم؛ وذلك لأن الحق تعالى إذا تجلَّى في قلب العبد بصفة القهر كان قهّارًا، أو بصفة الانتقام كان منتقماً، أو بصفة الرحمة كان رحيماً مشفقا وهكذا، ثم لا يصحب ذلك الولي الذي ظهر بمظهر العزِّ والسطوة والانتقام من المريدين إلا مَنْ محق االله تعالى نفسه وهواه، ولم يزل فيكلٍ عصرٍ وأوان أولياءٌ وعلماءٌ تُذلّ لهم ملوك الزمان، ويعاملوهم بالسمع والطاعة والإذعان، ومنهم: َمن يكون ستره بالاشتغال بالعلم الظاهر، والجمود على ظاهر النُّقول، حتى لا تكاد تخرجه عن آحاد طلبة العلم القاصرين، ومنهم: َمن يكون ستره بالمزاحمة على الدنيا، وتظاهره ِّ بحب الرئاسة والملابس الفاخرة وهو على قدم عظيم في الباطن، ومنهم: َمن يكون ستره كثرة التردد إلى الملوك والأغنياء وسؤالهم الدنيا وغير ذلك، فيقول القصير الفهم والإدراك: لوكان هذا وليًّا الله ما تردد إلى هؤلاء الأمراء، أو الأغنياء، أو لأي شيء، ما جلس في زاويته أوبيته يشتغل بعبادة ربِّه، ورحم االله الأولياء الماضين الذين كانوا فى الزمن الماضي ونحو ذلك من ألفاظ الجور، ولو استبرأ هذا القائل لدينه وعرضه لتوقَّف وتبصّر في أمر هؤلاء الأولياء والعلماء قبل أن يستنقد عليهم، فربما كان ترددهم لكشف ضرر أو خلاص مظلوم من سجن أو قضاء حاجة مثلاً، فيجب عليهم الدخول لتلك المصالح، ويحرم عليهم التخلُّف عنهم، لا سيما إذا رأينا المتردد من الأولياء والعلماء زاهدا فيما في أيدهم، متعززا بعز الإيمان وقت مجالستهم، آمرا لهم بالمعروف، وناهيًا لهم عن المنكر، لا يقبل هديةً ممن شفع له عندهم، فإن هذا من المحسنين ولا يجوز الاعتراض عليه بسبب ذلك.
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه االله تعالى: سمعت سيدي عليًّا الخواص رحمه االله تعالى يقول: إذاعلم الفقير من أمراء الجور أنهم يقبلون نُصحه لهم وشفاعته عندهم َوجب عليه صحبتهم والدخول عليهم، وصاحب النور يعرف ما يأتي وما يذر.
قال رحمه االله تعالى: ومن الأولياء من يكون سترهُ قبوله من الخلق ما يعطونه من الهدايا والصدقات، ويمدح الذين أعطوه ِ بالكرم، وهذا من أكبر أخلاق الرجال الذين أخلصوا في معاملة االله تعالى؛ فإن الرجل إذا قبل من الخلق صغُر في أعين الناس ضرورة كما أن من رد عليهم كبر في أعينهم، ولعل ذلك الراد إنما رد رياءً وسمعةً واستئلافًا لقلوب الناس؛ ليتوجهوا إليه بالتعظيم والتبجيل، ويطلقوا ألسنتهم ِ بالثناء الحسن.
وقد قال الفضيل بن عياض رحمه االله تعالى: من طلب الحمد ِمن الناس بتركه الأخذ منهم فإنما يعبد نفسه وهواه، وليس من االله في شيء.
وقال الشيخ محيي الدين العربي قُدس سره: ومما يفتح باب قلة الاعتقاد في أولياء االله تعالى وقوع زلة ممن تزيى بزيِّهم، وانتسب إلى مثل طريقهم والوقوف مع ذلك من أكبر القواطع عند االله تعالى، قال االله تعالى : {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] [النجم:38]: ، فمن أين يلزم من إساءة واحد أن يكون جميع أهل حرفته كذلك؟! ما هذا إلا محض عناد،وتعصب بباطل، وقال الشعراني رحمه االله تعالى:
استتارالرجال في كلّ عصرٍ ....تحت سوء الظنون قدر جليل
ما يضرّ الهلال في حندس الليل...لسوار السّحاب وهو جميل
وقال رحمه الله تعالى : ومن أشد حجاب عن معرفتنا أولياء االله تعالى شهود المماثلة والمشاكلة، وهو حجاب عظيم قد حجب االله تعالى به الأكثرين من الأولين والآخرين كما قال تعالى حاكيًا عن ٍ قوم:{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}[الفرقان:7] {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}[الكهف:54] {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ}[القمر:24] ونحو ذلك، ولكن إذا أراد االله تبارك وتعالى أن يُعرف عبدا من عباده بولي من أوليائه ليأخذ عنه الأدب ويقتدي به في الأخلاق طوى عنه شهود بشريَّته، وأشهد وجه الخصوصية فيه، فيعتقده بلا شك، ويحبُّه أشد المحبَّه، وأكثر الناس الذين يصحبون الأولياء لا يشهدون منهم إلا وجه البشرية، فلذلك قل نفعهم، وعاشوا عمرهم كله معهم ولم ينتفعوا منهم ٍ بشيء.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي قُدس ُّ سره: ولقد ابتلى االله تعالى هذه الطائفة الشريفة بالخلق خصوصا بأهل الجدل، فقل أن تجد منهم أحدا شرح االله صدره للتصديق بولي معين؛ بل يقول لك: نعم، إن الله تعالى أولياء وأصفياء موجودين ولكن أين هم؟ فلا تذكر أحدا إلا ويأخذ بدفعه، ويرد خصوصية االله تعالى له، ويطلق اللسان على كونه غير ولي الله تعالى، وغاب عنه أن الولي لا يـعرف صفاته إلا الأولياء، فمن أين لغير الولي نفي الولاية عن ٍ إنسان؟ ما ذاك إلا محض تعصب كما ترى في زماننا من إنكار ابن تيمية علينا وعلى إخواننا العارفين.
فاحذر يا أخي ممن كان هذا وصفه،وفر من مجالسته فرارك من السبع الضاري، جعلنا االله تعالى وإيَّاكم من المُصدقين لأوليائه، المؤمنين بكرامتهم بمنِّه و ِ كرمه، آمين.