فصل في (الجوع)
الجوع هو الركن الثالث من أركان هذا الطريق الإلهي وهو يتضمن الركن الرابع الذي هو السهر كالعزلة تتضمن الصمت والجوع، والجوع جوعان اختياري وهو جوع السالكين، وجوع اضطراري وهو جوع المحققين، فإن المحقق لا يجوع نفسه ولكن يقلل أكله إن كان في مقام الأنس، فإن كان في مقام الهيبة كثر أكله، فكثرة الأكل للمحققين دليل على صحة سطوات أنوار الحقيقة على قلوبهم بحال العظمة في مشهودهم، وقلة الأكل لهم دليل على صحة المحادثة بحال الموانسة من مشهودهم، وكثرة الأكل للسالكين دليل على بعدهم عن الله تعالى وطردهم عن بابه واستيلاء النفس الشهوانية البهيمية بسلطانها عليهم، وقلة الأكل لهم دليل على نفحات الجود الإلهي على قلوبهم فيشغلهم ذلك عن تدبير جسومهم، والجوع بكل حال ووجه سبب داع للسالك والمحقق إلى نيل عظيم الأحوال للسالكين والأسرار للمحققين ما لم يفرط بضجر من الجائع، فإنه إذا أفرط أدى إلى الهوس وذهاب العقل وفساد المزاج، فلا سبيل للسالك أن يجوع الجوع المطلوب لنيل الأحوال إلا عن أمر شيخ وأما وحده فلا سبيل له، لكن يتعين على السالك إذا كان وحده التقليل من الطعام واستدامة الصيام ولزوم أكلة واحدة بين الليل والنهار وأن يغب بالإدام الدسم فلا يُداسم في الجمعة سوى مرتين إن أراد أن ينتفع حتى يجد شيخاً، فإذا وجده سلم أمره إليه، وشيخه يدبر أمره وحاله، إذ الشيخ أعرف بحاله وبمصالحه منه، وللجوع حال ومقام، فحاله الخشوع والخضوع والمسكنة والذلة والافتقار وعدم الفضول وسكون الجوارح وعدم الخواطر الردية هذا حال الجوع للسالكين، وأما حاله في المحققين فالرقة والصفاء والمؤانسة وذهاب الكون والتنزه عن أوصاف البشرية بالقوة الإلهية والسلطان الرباني، ومقامه المقام الصمداني، وهو مقام عال له أسرار وتجليات وأحوال ذكرناها في كتاب مواقع النجوم في عضو القلب، ولكن في بعض النسخ فإني استدركته فيه بمدينة بجاية سنة سبع وتسعين وخمسماية، وكان قد خرج منه نسخٌ كثيرةٌ في البلاد لم يثبت فيها هذا المنزل، فهذا فائدة الجوع المصاحب للهمة لا جوع العامة، فإن جوع العامة جوع صلاح المزاج وتنعيم البدن بالصحة لا غير، والجوع يورث معرفة الشيطان عصمنا الله وإياكم منه بمحمد وآله.