وعن السؤال الرابع وهو : هل يوجد مستند الطائفة في أكل السُّموم ؟ وهو ما ذكروه من أن الشيخ رضي الله عنه وأرضاه كان يجمع الناس لذكر الله تعالى ويؤاجرهم على ذلك فيظلون يذكرون الله وبالعشي يعطيهم أجرتهم حتى اجتمع لديه خلق كثير، واجتمع الناس لمن يخدموهم بأجرة فاشتكوا إلى أمير الوقت بالشيخ رضي الله عنه وأرضاه، فأرسل إليه ينهاه على ذلك، فلم يُجبه الشيخ رضي الله عنه، وقال للرسول : إن لم ترجع فعلتُ بك هكذا،وأشار بيده إلى الأرض فهَوت من جميع جهاتها وبقي الرسول على فرسه واقفاً والبحر محيط به من جميع الجهات، فلما رأى ذلك وأيقن بالهلاك تاب إلى الله تعالى واستعطف الشيخ رضي الله عنه فأخد بيده وعادت الأرض كما كانت.
ولمّا أخبر الأمير بذلك جاء للشيخ رضي الله عنه وأرضاه تائباً متأدباً وقال : يا سيدي أريد منك الذهاب معي بقصد التبرك منكَ، فقال له الشيخ : وعلى بركة الله. ثم قام الشيخ رضي الله عنه ومعه الفقراء إلى أن وصلوا إلى دار الأمير، فلمّا دخلوا قدَّم إليهم طعاماً مسموماً عليه لفعة مقطوعة، يموت من أكله، ولمّا وضع الطعام بين يدي الشيخ رضي الله عنه خرجت منه لفعة وهي الحيَّة التي كانت مقطّعة فوق الطعام، فلمّا خرجت سارت تتمرّغ بين يدي الشيخ رضي الله عنه، وأجلسها في حجره الشريف، فلمّا رأى الأمير ذلك تابَ إلى الله تَوبةً نصوحاً واعتقد في الشيخ رضي الله عنه اعتقاداً جميلاً.
ثم بعد ذلك أتاه الفقراء في عيد الأضحى، فلمّا صلى صلاة العيد أدخلهم في بيت وقال لهم : لابدَّ أن أُضحي بأحدٍ منكم، فإني لم أصب ما أُضحي به في هذا العيد، فقالوا : نعم يا سيدي، ثم نادى واحداً منهم باسمه: يا فلان وأخرجه من بينهم كأنه يريد ذبحه، ثم أخد شاة وذبحها، وأتى إليهم والسكين بيده مُلطّخة بالدماء، ونادى منهم آخر وفعل معه مثل ذلك، فخاف بعضهم على نفسه من الذبح وفر هارباً، وظلّوا يومهم بالجوع ثم جاءوا إلى الشيخ رضي الله عنه عشية النهار تائبين وطلبوا منه طعاماً يأكلونه، فأمرهم بأكل السموم فأكلوه، ومن ذلك الوقت وهم يأكلونه إلى اليوم. انتهى.
نسمة من المختصر للغزَّالي وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لمّا فُتحت خَيبر أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سمٌّ، فتناولَ صلى الله عليه وسلّم ذلك قال : إن الشاة تُخبرني أنها مسمومة، ثمَّ سأل اليهود وقال : هل جعلتم في هذه الشاة سمٌّ ؟ فقالوا : نعم، فقال : وما حملكم على ذلك؟ قالوا : إن كنت كذّابا نستريح منك وإن كنتَ نبيًّا لم يضركَ. فدل حديث الشيخ الصحيح هذا دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يضرُّه السمَّ مُعجزة، وكلّ ما جاز أن يكون معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون كرامة للولي، إذ لكل من المعجزات والكرامات أمر خارق للعادات، ووراثة الشيخ رضي الله عنه مقام المحمديَّة ثابتة لا نزاع فيها، فكما أنَّ السمّ لم يضره صلى الله عليه وسلم كذلك لم يضر الشيخ رضي الله عنه كرامة له، كما يشير لذلك قولُ الإمام البصيري رض الله عنه :
والكرامات منهم مُعجزات....حازها من نوالك الأولياء.
كذلك قيل، وفي هذا استأناس للنفس فقط؛ وإلاّ فللنّظر في جميع ما ذُكر بحال.
أمّا قضية الشيخ رضي الله عنه مع السلطان الذي وضع له الطعام مسموماً فليس فيها أن الشيخ أكل السمّ ولا أحد من أصحابه أكله، وإنما فيه إظهار الكرامة بإخراج الحيّة من الطعام المسموم، وأما قضيّته رضي الله عنه مع أصحابه الهاربين من الذبح، فالظاهر منها أنه اختبرهم ثانيا كما اختبرهم أوّلاً بعد توبتهمورجوعهم، هل يصدقونه في توبتهم ويمتثلون أمره، أم يفرون كم فروا أولاً، فلمّا ظهر صدقهم وامتثلوا أمره حفظهم الله تعالى.