باب الإنابة
قال الله تعالى : {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}[سورة الزمر - الآية 54]
الفرق بين الإنابة والتوبة أن التوبة رجوعٌ عن المُخالفة إلى المُوافقة، والإنابة هي الرجوع إلى الله تعالى؛ فهو أعلى.
الإنابة ثلاثة أشياء :
الرجوعُ إلى الحقِّ إصلاحًا، كما رجع إليه اعتذاراً. والرجوعُ إليه وفاءً كما رجع إليه عهداً. والرجوعُ إليه حالاً، كما رجع إليه إجابةً.
بعني أنَّ الرجوع عند الإنابة إلى الحقِّ في إصلاح العمل والطاعة، كالرجوع إليه عند التوبة في الاعتذار عن الذنب والمعصية. والرجوع إليه ههنا في الوفاء بعقد التوبة، كالرجوع إليه هناك بعقد التوبة. فالتوبة هو العهد والإنابة هو الوفاء بذلك العهد. والرجوع إليه ههنا بأن يشهد صحَّةُ حاله بصدق مقاله هناك، حيث اعترف بذنبه وعقد عزيمة التوبة إجابة لقوله تعالى : {تُوبُوا}.
وإنّما يستقيمُ الرجوعُ إليه إصلاحاً بثلاثة أشياء :
بالخروج من التبِعات . والتوجُّع للعَثَرات . واستدراكِ الفائتات.
"الخروج من التَّبعات" بالاستغفار من الذنوب التي بينك وبين الله، والتضرُّع إليه، وبردِّ المظالم والتزام القصاص أو الدية أو الاستعفاء والاستحلال في الذنوب التي بينك وبين الناس.
و"التوجُّع للعَثرات" هو التندُّم والبكاء لخطاياك، وتألُّم الباطن لخطايا أخيك إشفاقاً عليه وترحُّماً له وإن كانت جنايةً عليك مع قبول عذره وعدم التأذِّي بزلَّته، ومقابلة إسائته بالحسنة.
و"استدراك الفائتات" بقضاء الواجبات من الصيام والصلوات والزكوات.
وإنما يستقيم الرجوع إليه وفاءً بثلاثة أشياء :
بالخلاص من لذَّة الذنب. وبترك استهانة أهل الغفلة تخوُّفاً عليهم - مع الرجاء لنفسك - وبالاستقصاء في رؤية علل الخدمة.
إنما يتيسَّرُ "الخلاص من لذَّة الذنب" بالتألُّم من تذكُّره كما كنتَ تتلذَّذ به وبالتفكُّر فيه.
و"أما ترك استهانة أهل الغفلة" فهو أن لا تستحقرهم خوفا عليهم - وترجو لنفسك الخلاص من العقاب وحصول الثواب - بل يجب أن تعكس وتخاف على نفسك النقمة، وترجو لهم الرحمة، وتعذِرَهم - دون نفسك -.
وأما الثالث فهو أن تستقصي في تعرف آفات خدمتك لله وللإخوان وعللها، وأمراض النفس وعيوبها في الخدمة، حت تتخلَّ من حظوظ النفس.
وإنما يستقيم الرجوع إليه حالا بثلاثة أشياء :
بالأياس من عملك، وبمعاينة اضطرارك، وشيم يرق لطفه بك .
الأياس من العمل إنما يكون بمشاهدته من الله، ونفي الفعل والتأثير عن الغير لقوله تعالى : {واللَّهُ خَلَقَكم وما تَعْمَلُونَ}(الصافات:96) وقوله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}.(ر سورة يونس - الآية:22)
وإذا كان العمل لله، ورآه منه : عاينَ اضطرارَه وافتقارَه إليه وأيس من عمله.
فلاحت له بوارقُ لطفه، فإنَّ العبد إذا انسلخ عن أفعاله برؤية الفعل من الله وأصبح مضطرًّا إليه بوِدِّه بلوامع اللطف وبوارق التجليات. وذلك من سُنَّة الله تعالى في عباده.