باب التفكُّر
قال الله تعالى :{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل:44]، الذكر هو الكتاب العزيز أنزله على نبيِّه محمد صلى لله عليه وسلملِيُبيِّنَ للناس أحكام التشريعمن الواجبات والمندوبات والمحظورات والمكروهات، والمباحات والمواعظ والنصائح والعِبَر، والآيات والمعارف وأحوال المعاد ولعلّهم يتفكرون في معانيها فيعتبرون بالآيات ويعرفون طرُق النجاة، قال :
"اعْلَمْ أَنَّ التَّفَكُّرُ تَلَمُّسُ الْبَصِيرَةِ لِاسْتِدْرَاكِ الْبُغْيَةِ".
أي : تطلب العقل الذي هو للقلب بمنزلة البصر للنفس مطلوبه ليدركه، وهو على ثلاثة أنواع : فكرة في عين التوحيد، وفكرة في لطائف الصّنعة ومحاسنها وإتقانها في مخلوقاته، ومعاني الأعمال حقائقها التي يصحُّ بها، وشرائطها التي يتوقَّف عليها، وكونها موافقة للأمر الإلهي كما ورد على ما بُيِّنَ وحُدَّ في الشرع مقارنةً للإخلاص مُبَرَّأَةً عن آفاتِها وعِلَلها من حظوظ النف، واحتجابها برؤيتها منها لا من الله تعالى، ومعاني الأحوال حقائق الواردات والهيئات الفائضة على القلب كالمحبة والشوق والوَجد، في الجملة التجليات الواردة على المتوسطين أحكامها وشرائطها وعِللُها.
وأما الفكرة في عين التوحيد فهي اقتحام بحرُ للجُحود ولا ينجى منه إلّا الاعتصام بضياء الكشف والتمسك بالعلم الظاهر.
إنما كانت الفكرة في عين التوحيداقتحام بحر الجُحود لأن الفكر هو الاستدلال بشيء على غيره، وقيل هو ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول، والمجهول غير المعلوم، فالفكر يقتضي أن المتفكر والفكر والدّليل غير المطلوب، فإذن الفكر يثبت وجودات كلها حُجُب تحجب الطالب عن المطلوب فهو عين التورّط في ورطة الجحود والاقتحام في بحره، لأن التوحيد الصحيح إنما يكون بفناء الكلّ في الحقّ واضمحلال عين المتفكِّر ورسم الفكر والدليل في عين الأحديّة كما ذكره اتلشيخ قدّس الله روحه في قوله، شعر :
ما وَحَّدَ الواحِد مِنْ وَاحد * إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِد
والفكر إنما يكون بالعقل، والعقل لا يُدرك إلا متعينًا مثله، فلا يهتدي إلى التوحيد لإثباته الرُّسوم، والتوحيد لا يكون إلا بفنائها واستهلاك الكل في عين الأحديّة وانتفاء الحدوث في القِدَم، كما قال تعالى : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}[القصص:88] وهو أمر يعجز عنه العقل، ولا ينجي منه، أي من بحر الجحود، إلاَّ نُورُ الاعتصام بضياء الكشف وهو أن يعتصم الطالب في طلبه بالله تعالى حتى يهتدي إلى نوره ويؤتِيَه العلم من لدُنه، قال تعالى : {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا}[الكهف:65]والتمسّك بالعلم الظاهر وهو أن بالإقرار بالوحدانية والإيمان التقليدي بناءً على الظواهر كقوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22] وقوله تعالى : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ }[البقرك:163] وأمثاله وهو توحيد العامّة تقليداً من غير فكر لقوله عليه السلام : (تَفَكَّرُوا فِي آلَاء الله وَلاَ تُفَكِّرُوا فِي الله) أي في ذات الله، والكشف توحيد الخاصّة.