آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : الذخيرة لأهل البصيرة -13


فصل : اعلم أنه ليس لعجائب القلب نهايةٌ، وشرَفُهُ إنّما هو بِكونِهِ أعجبَ الأشياءِ، وأكثرُ الخَلقِ غافلُونَ عنهُ، وشرفُهُ من وَجهَيْنِ، أحدهما من جهة العلم، والثاني من حيث القُدرة. فأمّا من جهة العلم فمن قسمين، أحدهما تَعرفُه جُملَةُ الخلق، والآخر قد يخفى عنهم فلا يكاد يعرفه أحدٍ وهذا أَعَنُّ. فأمّا من جهة الظاهر الذي يعرفه الخلق بالتعريف فهو أنّ للقلب "فق" يعرف بها جملةُ العلوم والصناعات، فيعلم كيفيّة الحَرف وقراءة الكتب وكيفيّة الهندسة والحساب وعلم النجوم وعلوم الشرائع وهو كونه شيئاً واحداً لا يقبل القسمة فإنه يحوي العلوم كلّها، بل العالم كلُّه فيه كالذّرّة في بحرٍ أو برٍّ، وفي لحظة واحدة يذهبُ بفكرته وحركته من الثرى إلى العُلَى ومن المشرق إلى المغرب.

ومع كونه مسجوناً في العالم التُّرابي فهو يقدر أن يمسح السموات ويذرعها، ويعلم مقدار كل كوكب وذرعه بطريق المساحة(المقدار) فيقول كم ذراع هو، ويستخرج بحيلته السَّمك من قعر الماء، ويأخد الطير بحُسن تدبير من جوِّ الهواء وفضاء الصّحراء، ويتصرف في الحيوانات من.. إلى الفيل والأسد والفرس والجمل بين أمره ونهيه، فهي مسخّرة له، وكلُّ عجائب في العالم بين يديه وبحُكمه، وهذا كله من جملة العُلوم التي يحصل له من جهة الحواس الخمس، ولهذا السبب كان ظاهرا فيُدرِك عِلمُهُ كلُّ أحدٍ. 

وأعجبُ من هذا أنّ في باطن القلب روزنة مفتوحة نحو عالم المحسوسات الذي سمي بالعالم الجسماني كما سُمِّي عالم الملكوت بالعالم الروحاني، وأكثر الناس يعلمون العالم الجسمانيّ محسوساً وهذا مُختصرٌ في جنب غيره، والدليل على أنّ للعلوم روزنةً أخرى من باطن القلب شيئان، أحدهما النوم فإنّه إذا انسدّت بالنوم طُرُقُ الحواس انفتحَت تلك الروزنةُ فيُخبر بما في عالم الملكوت واللوح المحفوظ من الغيب، ويعرف ما يأتي في المستقبل ويحدُث فيه ويراه على حلية الحلال التي يكون عليها ويحدث لذلك، وأمّا على مثال يفتقد فيه إلى تعبير الرؤيا. ومن جهة الظاهر يحسب الناس أنّ المستيقظ أولى بمعرفة ذلك من النائم وهم يرون أنّ المستيقظ لا يَرى الغيب وفي حال النوم يراه ولكن لا من طريق الحواسّ، ومَن وقف على شرح حقيقة النوم عَلِمَ الحال ولكن لذلك كُتب مُصنّفة يطول ذكرها ويُخرجُ الاشتغالُ بها هذا المُختصر عن وضعه والمقصود فيه وقد صنَّفت في ذلك بحمد الله كُتباً بالعربية والفارسيّة.

والذي ينبغي أن يُعرفَ ها هنا هو أنّ القلب كالمرآة إذا كانت صافيّةً من الكُدورات مُتهَيِّئةً لقبول الأشياء فإنه يظهر فيها أثر قوّة قبول الأشياء وصورها، وبالضدّ من ذلك إذا لم تكن صافيةً فإنه لا يظهر فيها أثر قوّة قبول شيء. ومثل عالم الغيب كالمرآة فيها صور جميع الموجودات على وجه يقع فيها الصُّور فيما قوبل بها، كذلك صور اللوح المحفوظ ينظر في القلب إذا كان صافياً من الشوائب عاريا فارغا من المحسوسات ويصير بينهما مناسبة، وما دام مشغولا بالمحسوسات حُجبَ عن مناسبة عالم الملكوت، وفي حال النوم يكون فارغاً من المحسوسات فلا جرم يظهر ما كان في جوهره من مطالعة الملكوت، ولكن الحواس وإن كانت واقفة عن التصرّف بسبب النوم مُرتجّة الباب فالخيال بحاله لم يزل، ولهذا وصل كلما يراه وإنما يراه في كسوة الخيال غير صريح ولا مكشوف ولا عارٍ من غطاء وسَتر، فإذا مات لم يبق حواس ولا خيال فترى الأشياء خالية من الخيال عارية من الغطاء والسّتر فيقال له : { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق:22] { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا }.[السجدة:12]

الدليل الثاني هو أنّه ليس أحدٌ إلاّ وله فراسات وخواطر تَطرقُ قلبه على سبيل الإلهام، لا من طريق الحواسّ لكن يظهر في القلب بحيث لا يعلم من أين جاء ذلك فيتحقّق بهذا الطريق أنّ العلوم كلها ليست من طريق الحواس فقط.

فإذا عرفت أنّ القلب من عالم الملكوت لا من عالم المحسوسات، والحواسّ المخلوقة لهذا العالم يصير حجاباً للقلب عن مطالعة الملكوت، فما لم يفرغ من المحسوسات والحواس فلا يهتدي سبيلاً إلى عالم الملكوت بحالِ.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية