ولما أنهى الكلام على ما يجب للمكلّف أن يعرف من تجليات الألوهيّة، شرع يبين فيما ينبغي له أن يلزمه من آداب العبوديّة : وهي معرفة الرسل عليهم الصلاة والسلام. فقال رضي الله عنه :
يَجِبُ لِلرُّسْلِ الْكِرَامِ الصِّدْقُ أَمَانَةٌ تَبْلِيغُهُمْ يَحِقُّ
هذا شروع من الناظم رحمه الله فيما يجب على المكلّف من معرفة الرسل عليهم الصلاة والسلام وملازمة الأدب معهم، ولو مع استغراقه في الشهود. والتغلغل في المعرفة لا ينبغي له أن يتعدّى طوره أو يدعي ما ليس له، كأن يزعم أنه حصل ما حصل للأنبياء وما أشبه ذلك!، وإن كانت الحضرة الإلهيّة منتهاهم والتجلي الإلهي مطلوبهم، ففي ذلك التجلي الإلهي مطلوبهم، ففي ذلك التجلي تفاوت، فليس هو في كل شخص كما عند الآخر، ولا على قانون واحد ولا على كيفية مطردة، بل البصائر فيه متفاوتة، وأسرار الخلق في ذلك متباينة من كثير وقليل، فهو يتجلّى لكل شخص على قدر طاقته وعلى قدر ما تسعه حوصلته من تجلي الجمال القدسي الذي لا تدرك له غاية ولا يوقف له على حدٍّ ولا نهاية.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الذي في مرتبته صلى الله عليه وسلم من تجليات الأسماء، والصفات والحقائق لا مطمع لأحد من أكابر أولي العزم في مرتبته. وإذا كان الأمر كذلك وعرفت هذا التفصيل فاعلم أن الشطحات التي صدرت من أكابر العارفين مما يوهم أو يقتضي أن لهم تفوقا وعلوا على مرتبة الأنبياء والمرسلين يأتي الجواب عليها، ومثال ذلك قول أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه : معاشر الأنبياء أوتيتم لقباً وأوتينا ما لم تؤتوه. وقول ابن الفارض رضي الله عنه :
ودونك بحراً خضتهُ وقفَ الأُلى* بساحله صَوناً لموضع حَرْمَتِي
إلى أن قال :
فَحَيَّ على جَمعي القديم الذي به* وجدتُ كهولَ الحي أطفال صبوتي
وكقوله في الكافية :
كلُّ مَن في حماكَ يهواكَ لكنْ* أنَا وحدي بِكلِّ مَن في حِمَاكَ
وقول بعض العارفين : نهاية أقدام الأنبياء بداية أقدام الأولياء.
والجواب على هذه الشطحات أن للعارف وقتاً، كما قال صلى الله عليه وسلم : (لِي وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ غَيْرً رَبِّي) فيطرأ الفناء على ذلك العارف والاستغراق والاستهلاك، حتى يخرج بذلك عن دائرة حسه ورؤية نفسه ويخرج من جميع مداركه ووجوده، وذلك الاستهلاك يكون له في ذات الحق سبحانه وتعالى، فيتدلى له من قدس الإله فيض يقتضي منه أن يشاهد ذاته عين ذات الحق لمحقه فيها واستهلاكه، ويصرح في هذا الميدان بقوله : "سبحاني لا إله إلا أنا وحدي" وكقوله : "جلّت عظمتي وتقدّس كبريائي" وهو في ذلك معذور لأن العقل الذي يميز به الشواهد والفوائد، ويعطيه تفصيل المراتب بمعرفة كل ما يستحق من الصفات غاب عنه وامتحق وتلاشى واضمحل، وعند فقد هذا العقل وذهابه وفيض ذاك السر القدسي عليه تكلم بالكلام الذي وقع منه، خلفه الله فيه نيابة عنه، فهو يتكلم بلسان الحق لا بلسانه، ويعرب عن ذات الحق لا عن ذاته.
ومن هذا الميدان قول أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه : "سبحاني ما أعظم شأني" وكقول الحلاج : "أنا الحق الذي لا يغير ذاته، مر الزمان وا في الجبّة إلا الله" وقول بعضهم : "الأرض أرضي والسماء سمائي" وكقول الششتري رضي الله عنه :
أنا شيء عجيب*لمن رآني*أنا المحب أنا المحبوب*ما ثمَّ ثاني
ولابن الفارض أقوال كثيرة مثل هذه، وهذا ما يقضيه الفناء والاضمحلال المناسب لمقامهم. ولا نفهم أن يكون لهم علو على رتبة الأنبياء وكل ما سمعته يا أخي من الكلام الصادر من المشايخ كمثل هذا فاحمله على أنه صدر منهم في حالة استغراقهم وفنائهم عن أنفسهم في عظمة ربهم، فلا تغتر بهم أنت حالة كونك صاحياً، ولو كنت بالغ النهاية في المعارف لا يجوز لك أن تقيس نفسك على نبي من الأنبياء لكونك عاقلاً صاحياً، وتقدم أولا أن العقل شرط من شروط التكليف، والمكلف يعاقب على ترك الأدب بخلاف ما إذا كان مغلوباً عليه وصدر منه كلام ككلام المتقدمين في الذكر، فلا ملامة عليه. وأما إذا كان صاحياً فلا يمكن أن يتلفظ بمثل ذلك الكلام، لأن كل عارف يعلم من نفسه أنه بعيد عن رتبة النبوّة لما يجد من التقصير لنفسه في سائر الأمور بخلاف الأنبياء فإنهم فطروا على الطاعة، والعصمة تساعدهم، وإن كان الأولياء يكون لهم الحفظ، والحفظ قد يتخلّف، وأيضاً الحفظ يكون مع الولاية لا قبلها، بخلاف العصمة فإنها تكون قبل النبوة وبعدها، فلهذا وجبت في حقهم هذه الصفات التي لا تجب في حق غيرهم : فأولها : الصدق وحقيقته عند القوم هو أن يكون صادقاً في أقواله وأفعاله وأحواله مراقباً لربه في ظاهره وباطنه بحيث لا يصدر منه إلا ما يرضي الحق عز وجل. والصفة الثانية هي الأمانة وحفظها واجب على الأنبياء وعلى خواص الأولياء، وقلّ من يحمل أثقالها ويكتم أسرارها ما عدا هؤلاء الرجال المذكورين قال تعالى : {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72]، والمراد بالأمانة عند القوم هي سر الألوهيّة الذي لا يحمله إلا الأنبياء أو رجال من خواص الأمّة المحمّدية، لأن الله قد أمرهم بكتمانها وأن لا يفشيها أحدهم عند غير أهلها. فكتمها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكانت لهم مزية تامة، وأما الأولياء فقد وقع من بعضهم إفشاء ما لا ينبغي إفشاؤه، وبهذا كانت الأمانة صفة واجبة في حق الأنبياء ولم تكن واجبة في حق الأولياء.
وكذلك يجب في حق الرسل عليه الصلاة والسلام التبليغ وهو أن يبلغ الرسول كل ما أمره الله عز وجل بتبليغه، ولا يكتم منه شيئاً، ولا يخاف في الله لومة لائم ولو تحقق الهلاك من الخلق وعدم إجابتهم له، فإنه لا يبالي بذلك ويبلغ رسالة ربه، بخلاف الولي فإنه ربما يقع منه سكوت عن الأمر المنهي عنه، وقد يؤديه لذلك السكوت مراعاة القدر أو قلّة العزم لأنه مقصر بالنسبة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والأنبياء أيضاً مراعون للقدر إلا أن النبي أمر أن يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.
وفي قصة الخضر وموسى عليهما السلام كفاية، فالأنبياء آخدون بالعزائم بالنسبة للأولياء، كما أن الأولياء آخدون بالعزائم بالنسبة لعامّة الملؤمنين.
وحاصل الأمر أن الولاية عامّة والنبوّة خاصّة كما أنّ النبوّة عامة والرسالة خاصة، فكل نبي وليّ ولا عكس، كما أن كل رسول نبيّ، ولا عكس.