وروى التادلي والعزفي وصاحب النجم الثاقب ناقلاً عن التادلي ميمون الباروطي قال: زرت الشيخ أبا يعزى, وأقمت عنده أيامًا، فجاءت جماعةٌ من أهل فاس من المنكرين عليه، فخرج الشيخ إلى لقائهم مع جماعةٍ من أصحابه بالغابة، فلما رأوه نزلوا عن دوابهم يسلمون عليه، فبينما هم كذلك إذا خرج أسدٌ من الشعب, فوثب على دابة أحدهم، فصاح عليه أبو يعزى ودنا منه إلى أن أخذ بأذنه ونحن ننظر إليه, فقال لأصحابه: اركبوه فهابوه, فناداني ميمون، فقلت: نعم قال: اركب، فوثبت على ظهره وركبته وأجريته مرارًا، والواصلون للإنكار على أبي يعزى ينظرون إليّ وأنا على ظهره, وكنت أحسُّ وَبَره نفذ إليّ من ثوبي إلى جلدي، فأقمت عليه ساعة, ثم نزلت عنه فذهب.
وروى أبو العباس بن إبراهيم الأزدي: عن عبد الواحد عن الحاج بن عاصم قال: زرت أبا يعزى من سبتة، فلما أردت الانصراف قال لي: أضحيتك عندى من ماشيتي، أو قال: من غنمي، قلت له: مَنْ يوصلها لي من هاهنا إلى سبتة، وفي توصيلها لي تعبٌ.
قال لي: لا تعب عليك، أو قال: ما عليك تعب, قال: فقبض الكبش, وأخذ حماري, وحكَّ فم الكبش بعرقوب الحمار، فركبت حماري والكبش يتبعه كالفلو خلف أمه، فإذا لقيني قطيعٌ من الغنم وقف ينظر إليهم ساعةً, ثم يجري إلى أن يصل الحمار ويتبعه إلى أن وصلت مدينة سبتة, قلت: ورأيت هذه الحكاية وقعت له مع الفقيه الإمام أبي الصبر أيوب بن عبد الله الفهري، وأنه كان يعتقده غاية، ونال من بركاته كما نذكره في باب:(مَنْ أخذ عنه) إن شاء الله تعالى.
قال أبو علي الصواف رضي الله عنه وكان من الأعلام: قال: سمعت الشيخ أبا مدين يقول: جاء أبو الصبر أيوب بن عبد الله الفهري السبتي بصحفةٍ كبيرةٍ على رأسه من العود من عمل الروم من سبتة إلى تاغية منـزل الشيخ أبي يعزى, وقال له: أردت أن تقبلها مني فقبلها منه أبو يعزى، فكان يقريء فيها أضيافه والوافدين عليه الزائرين.
قال ابن الخطيب: وبين تاغية وسبتة ثلاثة عشر مرحلة، قلت: وبالأيام أقل من ذلك، وكان أبو الصبر هذا كبير التعظيم لأبي يعزى ويدل على ذلك صنيعه هذا.
وحدَّث الثقات عن أبي محمد يسكر بن موسى الجراوي، وكان من أكابر الأعلام كما نذكر وصفه في باب مَنْ صحب الشيخ وأخذ عنه، وكذا في باب مَنْ شهد له بالكمال, وأنه حاز قصب السبق في مقامات الرجال.
قال: ذهبت مع جماعة لزيارة الشيخ أبي يعزى، فتمنيت في نفسي أن يطعمني رغيفًا وعسلاً، فلما دخلنا عنده قدَّم لنا طعامًا، فأهويت بيدي لآكل مع الناس، فقال لي: اصبر أنت حتى تأكل ما اشتهيت, فأتانى برغيف البُر والعسل.
قال الإمام ابن الزيات: حدثني أبو زكريا يحيى بن محمد الزناتي قال: زار أبو محمد يسكر الشيخَ أبا يعزى، فأعطاه أبو محمد نعله ليلبسهما قال: أريد أن تقبلها مني لتذكرني كلما لبستهما, وكلما لبستهما للوضوء فتدعوا لي.
وأبو زكريا هذا هو حفيد أبي محمد مع الله صاحب نظير, وابن الزيات بعد نقله للحكاية أنشده:
أَمِنْ بَعْدِ ذُلِّ الْعَيْشِ فِيمَا أَرُومه أثَاب بِمُرّ العيشِ فِيمَا أَثَابُ
وَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيرةٌ ولَيْتَك تَرْضَى وَالأَنَامُ غُضَّابُ
وَلَيْتَ الذي بَيني وبينك عامرٌ وَبَيْني وَبَيْنَ الْعَالَمِين خَرَابُ
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الودُّ فَالْكُلٌّ هَيِّنٌ وَكُل الذي فَوْقَ الترابِ تُرَابٌ
وَلَيْتَ شَرَابٌ مِنْ وِدَادِكَ صَافِيًا وَشُرْبِي مِنْ مَاءِ الْفُرَات سَرَابُ
والأبياتُ معروفةٌ، وإنما أتى بها استشهادًا لما هو بصدده.
قال الشيخ أبو مدين: لما كنت بفاس بعد معرفتي بالشيخ أبي الحسن بن حرزهم، وملازمتي له, سمعت الناس يتحدثون بكرامات الشيخ أبي يعزى، فذهبت إليه في جماعة توجَّهوا لزيارته. فلما وصلنا جبل أيركان، ودخلنا على أبي يعزى, أقبل على القوم دوني، فلما حضر الطعام وقمت إليه, انتهرني ومنعني من الأكل، فقعدت في ركن الدار، فلما أحضر الطعام وقمت إليه انتهرني، فأقمت على ذلك الحال ثلاثة أيامٍ، وقد اجهدني الجوع، ونالني الذل، فلما انقضت ثلاثة أيام قام إليّ أبو يعزى من مكانه، فقمت إلى ذلك المكان, ومرغت وجهي فيه، فلما رفعت رأسي نظرت فلم أر شيئًا، وصرت أعمى فبقيت أبكي طول الليل ولسان الحال ينشد:
قليلٌ لمثلي زفرة ونحيب ولَيْسَ لَهُ إلا الحبيبُ طبيبُ
وأوّل ما يلقَ الْمحبُّ خُضُوعه إِذَا كَان مَنْ يَدْعُوه لَيْسَ يُجِيبُ
قال: فلما أصبحت خرج الشيخ فاستدعاني، وقال لي: قرِّب يا أندلسي، فدنوت منه, فمسح بيده على عيني فأبصرت، ثم مسح بيده على صدري, ثم قال للحاضرين: هذا يكون له شأنًا عظيمًا، أو كلامًا هذا معناه, قلت: جاءت بشائر الفتح، وإنما فعل به ما فعل اختبارًا له, كما فعل أبو الخير الدبَّاس مع سيدي عبد القادر الجيلاني، فوجده جبلاً راسخًا لا يتحرك ولا يتزلزل، قال: فأذن لي في الإنصراف, ثم قال لي: ستلقى في طريقك الأسد فلا يروعك، فإن غلب عليك خوفه فقل له: بحرمة آل النور إلا ما انصرفت عني، فإنه يذهب عنك، ثم يلقاك ثلاثة من اللصوص عند شجرة، وستعظهم فيتوب اثنان منهم على يديك, ويرجع الثالث, ثم يُقتل ويُصلب على تلك الشجرة، فودعته وانصرفت عنه, فلما دخلت الغابة اعترض لي الأسد في الطريق، فأقسمت عليه بأبي يعزى, وتنحى عن الطريق إلى أن جزت، وما زال يتبعني إلى أن خرجت من الشعراء, فرجع عني، ثم أتيت على ثلاثة من اللصوص, وهم جلوسٌ إلى أصل شجرة, فقاموا إليّ فوعظتهم, فأَثرت الموعظة في قلوب اثنين منهم، فانصرفا وبقي الثالث, فرجع إلى أصل الشجرة، فقعد عندها فسمع به الوالي، فبعث إليه من ضرب عنقه, وصلبه على تلك الشجرة, قال: وكنت كثيرًا ما أزوره؛ أعني: الشيخ أبا يعزى، فأول مرة زرته مشيت إليه مع رجلين, فاشتهى كل واحدٍ منهما عليه شهوة عينها، فلما وصلنا أطعم كل واحدٍ منا ما اشتهاه حين الوصول إليه، فأقمت عنده أيامًا فرأيته يقدم الرجل للصلاة في تلك الأيام، فإذا كان مجيدًا في قراءته تركه, وإذا كان لحاّنًا أخرجه، وكان أبو يعزى أُميًّا، ولكن رُزق إدراك علم هذا.
قلت بفِراسة صادقة ويقينٍ كامل وقد قال صلى الله عليه وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل».