آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم -56

ثم فسر الشيخ ذلك الداء الذي يكون خفياً في الطاعة ببعض جزئياته وهو أعظمها، فقال :

(رُبَّما دَخَلَ الرِّياءُ عَلَيْكَ مِنْ حَيْثُ لا يَنْظُرُ الخَلْقُ إلَيْكَ)


قلت : الرياء : هو طلب المنزلة عند الناس، وقصد ذلك بعمل صالح سواء كان ذلك العمل ظاهراً للناس وهو الغالب، أو خفياً عنهم، فقد يكون الرياء في العمل الخفي فيدخل الرياء عليك حيث لا ينظر أحد إليك، وهذا أصعب من الأول لأنه أخفي من دبيب النمل كما في الحديث.

وكان بعض العارفين يقول : اجتهدت في إزالة الرياء من قلبي بكل حيلة فما أزلته من جهة حتى نبت من أخرى من حيث لا أظنه.
وقال بعضهم : من أعظم الرياء من رأى العطاء والمنع والضرر والنفع من الخلق.
وقال بعضهم : أقسام الرياء ثلاثة كلها علّة في الدين : الأول : وهو أعظمها أن يقصد بعمله الخلق ولولاهم لم يعمل. الثاني : أن يعمل للمدحة والثناء ولو لم يعلمه الناس. الثالث : أن يعمل لله ويرجو على عمله الثواب ورفع العقاب، وهذا النوع جيد من وجه معلول من وجه، عند العارفين رياء، وعند عامة المسليمن إخلاص، وقد قيل في قوله تعالى : {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر:10] هو السالم من الرياء ظاهراً وباطناً بحيث لا يريد عامله حظاً دنيوياً ولا أخروياً.

وللمرائي علامات لا تخفى، منها : نشاطه في الجلوة وكسله في الخلوة، أو إتقان العمل حيث يراه الناس وتساهله حيث لا يراه إلا الله. ومنها : التماسه بقلبه توقير الناس له وتعظيمه ومسارعتهم إلى قضاء حوائجه وإذا قصر أحد في حقه الذي يستحقه عند نفسه استبعد ذلك واستنكر، ويجد تفرقة بين إكرامه وإكرام غيره، وإهانته وإهانة غيره من أقرانه، حتى ربما يظهر بعض سخفاء العقول ذلك على ألسنتهم فيتوعدون من قصَّر في حقهم بمعاجلة الله لهم بالعقوبة،ـ وأن الله تعالى لا يدعهم حتى ينتصر لهم ويأخذ ثأرهم، فإن وجد الفقير هذه الأمارات في نفسه فليعلم انه مرائي بعمله وإن أخفاه عن أعين الناس. وقد روي عن علي كرم الله وجهه : أن الله تعالى يقول للفقراء يوم القيامة : "ألم تكونوا تُرخَّص عليكم الأسعار، ألم تكونوا تبادرون بالسلام، ألم تكونوا تقضى لكم الحوائج" وفي الحديث الآخر : "لا أجر لكم لكم قد استوفيتم أجوركم". وقال عبد الله بن المبارك : روى عن وهب بن منبه رضي الله عنه أن رجلاً من العباد قال لأصحابه : إنَّا إنما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان، فنخاف أن يكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم، أن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، وإن سأل حاجة أحب أن تعطى له لمكان دينه، وإن اشترى شيئاً أحب أن يرخص عليه لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكب من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ من الناس فقال السائح : ما هذا، قيل له : الملك قد أظللك، فقال للغلام : ائتني بطعام. فأتاه ببقل وزيت وقلوب الشجرة فأقبل يحشو شدقه ويأكل أكلاً عنيفاً، فقال الملك : أين صاحبكم ؟ قالوا : هذا، قالوا له : كيف أنت ؟ قال كالناس. وفي حديث آخر : بخير، فقال الملك : ما عند هذا من خير. فانصرف عنه، فقال السائح : الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام. ومن هذا النوع من الرياء خاف الكبار وعدوا أنفسهم من الأشرار كما روى عن الفضيل رضي الله عنه أنه قال : من أراد أن ينظر إلى مرائي فلينظر إلى هذا.

وسمع مالك بن دينار امرأة تقول له : يامرائي، فقال : يا هذه وجدت إسمي الذي أضلّه أهل البصرة. إلى غير هذا مما روى عنهم في هذا المعنى.

ولا يسلم من الرياء الجلي والخفي إلا العارفون الموحدون، لأن الله تعالى طهرهم من دقائق الشرك وغيَّب عن نظرهم رؤية الخلق بما أشرق على قلوبهم من أنوار اليقين والمعرفة، فلم يرجو منهم حصول منفعة ولم يخافوا منهم وجود مضرة، فأعمال هؤلاء خالصة وإن عملوها بين اظهر الناس، ومَن لم يحظ بهذا وشاهد الخلق بهذا، وتوقع منهم حصول المنافع ودفع المضار فهو مراء بعمله وإن عَبد الله تعالى في قنة جبل بالنون، أي أعلاه، قاله الشيخ ابن عباد رضي الله عنه.الخ.

ومنها، أي ومن علامة الرياء الخفية أيضاً إستشراف العبد وتطلعه أن يعلم الناس بخصوصيته كما أشار إليه بقوله :

(اسْتِشْرَافُكَ أَنْ يَعْلَمَ الْخَلْقُ بِخُصُوصِيَّتِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِدْقِكَ فِى عُبُودِيَّتِكَ)


إذا خصك الحق تعالى أيها الفقير بخصوصية من خصوصية خواصه ، كزهد أو ورع أو توكل أو رضى أو تسليم أو محبة أو يقين في القلب أو معرفة ، أو أظهر على يديك كرامة حسية أو معنوية ، أو استخرجت فكرتك حكما أو مواهب كسبية أو لدنية ، ثم استشرفت ، أي تطلعت وتمنيت أن يعلم الخلق بخصوصيتك ، بأن يطلعوا على تلك الخصوصية التي خصك الله بها ، فذلك دليل علة وجود الرياء الخفي في باطنك ، ودليل على عدم صدقك في عبوديتك ، بل أنت كاذب فيها، إذ لو كنت صادقا في عبوديتك لا كتفيت بعلم الله وقنعت بمراقبته إياك واستغنيت به عن رؤية غيره .

فالواجب على الفقير إذا خصه الله بخصوصية كتمها وجحدها وسترها إلا عن شيخه فإن أظهرها فهو على خطر فقد يكون تحدثا وقد يكون تبجحا وفي الكتمان السلامة. وقد تقدم قول الشيخ: "من رأيته مجيبا عن كل ما سئل ومعبرا عن كل ما شهد وذاكرا كل ما علم فاستدل بذلك على وجود جهله"

وفي هذه المعنى قال شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه:
احفر لسرك ودك ... في الأرض سبعين قاما
وخل الخلائق يشكوا ... إلى يوم القياما

وكان بعض إخواننا إذا سئل :" ما أدركتم وما ذقتم في هذا الطريق ؟ يقول : البرد والجوع " فكان شيخ شيخنا يعجبه ذلك ويستحسنه ، لدلالته على صدق الإخلاص ، وما زالت أشياخنا وأشياخهم يستعملون الخراب في ظواهرهم ، صونا لما في بواطنهم ، ولأجل هذا فضل عمل السر على عمل العلانية بسبعين درجة ضعفاً كما فى الحديث.

وقال الشيخ أبو عبد الله القريشي رضي الله عنه: كل من لم يقنع في أفعاله وأقواله بسمع الله ونظره دخل عليه الرياء لا محالة. وقال بعضهم: ما اخلص عبد قط إلا أحب أن يكون في حب لا يعرف ، ولهذا كان اسقاط المنزلة شرط في هذا الطريق فإن تحقق العبد بالمعرفة ومشاهدة الوحدانية جاز له الأخيار بالوحدانية بأعماله والإظهار لمحاسن أحواله بناء منه على نفي الغير وأداء الواجب من الشكر.

كان بعض السلف يصبح فيقول: صليت كذا وكذا ركعة وتلوت كذا وكذا سورة فيقال له أما تخشى من الرياء فيقول ويحكم وهل رأيتم من يراءى بفعل غيره ؟والحاصل من فنى عن نفسه وتحقق بشهود ربه فلا كلام عليه وقد قالوا:" من أحب الخفا فهو عبد الخفا ومن أحب الظهور فهو عبد الظهور ومن لم يرد غير ما أراد الله به فهو عبد الله حقا "

والحاصل : من فني عن نفسه وتحقق بشهود ربه فلا كلام عليه، وقد قالوا : من أحب الخفا فهو عبد الخفا، ومن أحب الظهور فهو عبد الظهور، فهو عبد الظهور ومن لم يرد غير ما أراد الله به فهو عبد الله حقاً.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية