واعلم أن المعيّة صفة قديمة من صفات الحق تعالى وهي معيته لكل مخلوق من جميع المخلوقات بحيث لو لم يكن الحق تعالى مع ذلك المخلوق، أي مخلوق كان ما يكون ذلك المخلوق، ولا وجد ولا ظهرت له عين وحيث كان كل مخلوق في علم الخالق، وعلم الخالق صفة من صفات الخالق فقد تصور الخالق من حيث صفته العلمية بصورة كل مخلوق لا من حيث ذاته، ثم ظهرت صور المخلوقات التي في الصفة العلميّة مترتبة على ما سبقت به الإرادات الأزلية فهي العالم، فلولا معيته تعالى بذاته وصفاته في حضراته العلمية، لكل شيء ما كان وجد شيء فإن كل شيء هالك من حيث هو شيء لا وجود له مطلقاً إلا وجهه تعالى وهو توجهه تعالى متصورا في حضراته العلمية بصورة ذلك الشيء المعدوم الذي لا يصحُّ له وجود من نفسه أبدا، فالله مع كل شيء بصورة ذلك الشيء، وليس شيء مع الله تعالى مطلقاً، فإن قلت كيف يتصور القديم المطلق في صورة مقيدة ولو في حضرة علمه ؟ قلت : تصوره في حضرة المعلم أمر من ضروريات العلم، ولكن تصور في مطلق عن الصورة، ثم ذلك المطلق عن الصورة في العلم عين العلم، كما أن علمه تعالى يزيد مثلا متضمن لعلمِهِ بجميع ما يتصوره زيد في نفسه، فما يتصوره زيد في نفسه يتصوره الحق تعالى بعلمه المطلق، ولكن في ضمن العلم بزيد، فأول ما يعلم الله تعالى يعلم نور محمد صلى الله عليه وسلم مطلقا عن جميع الصُّوَر ثم يعلم جَميع الصور منه فيه، فعِلْمُ الله تعالى مُطلق عن جميع القيود الصور، ومَعلومُهُ تعالى وهو نور محمد صلى الله عليه وسلم مطلقا أيضا عن جميع قيود الصور من حيث هو معلومه تعالى، وأما من حيث هو نور محمد صلى الله عليه وسلم فهو مقيّد بجميع الصُّور ما كان منها وما يكون، ولهذا ورد في الحديث : (أن أول ما خلق الله تعالى نور النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خلق منه كل شيء)، فما ثمَّ إلا الله تعالى متجلي على نور محمد صلى الله عليه وسلم، والنور حاير فيه تعالى وقد ألبسه الله تعالى حُلَّة صفاته وأسمائه، فهو يصور هذا المتجلي عليه في صور لا نهاية لها، ثم ينفيها عنه تعالى وهو حقيقة التسبيح الذي قال تعالى :{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (الإسراء:44) فذكر تسبيح ما هو معدوم لوجوده فيما هو موجود عين ذلك الموجود، وهو نور محمد صلى الله عليه وسلم، ونور محمد صلى الله عليه وسلم المطلق كما ذكرنا معدوم لوجوده تعالى المطلق في رتبة علمه تعالى به، فهو الله في السموات وفي الأرض، ولا سماوات ولا أرض من حيث هي سموات وأرض، بل الله الذي لا إله إلا هُوَ المنزه عن كل تشبيه وتكيف، المقدس عن كل تمثيل وتعريف وتوصيف، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.