ثم قال الشيخ رضي الله عنه :
(نسألُكَ العِصمةَ في الحركاتِ والسَّـكنَـاتِ والكلماتِ والإراداتِ والخَطَراتِ من الشكوكِ والظُّنونِ والأوهـام السـاترةِ للقلوبِ عن مُطالعةِ الغيوب).
قلت : سؤال العصمة من موجبات الحجاب بأي وجه كانت، لأن الحجاب أصل كل بلية، كما أن العصمة أصل كل وقاية، حتى لقد قيل : أنها الامتناع من الذنب مع استحالة الوقوع فيه، أي امتناعه تحقيقا لا يجاب ذلك من الله عز وجل، لا أنه مستحيل لذلك .
ثم أن العصمة تقع في نفس الأمر لمن خصه الله بها من نبي، أو ولي، أو غيرهما عموما، إلا أنها واجبة للأنبياء فلا يصح تخلفها عنهم، ولا دعواها من غيرهم، لجواز النقيض عليهم، وانما يصح وصف غيرهم بالحفظ الذي هو انتفاء النقيض مع إمكان الوقوع فيه، فالأنبياء معصومون، والأولياء محفظون في حكم الظاهر .
وقد يكون الحفظ من العصمة في علم الله، ولكن لا سبيل لنا إليه، وان كنا نطلب وجوده، والله اعلم .
وقد قال تعالى : ( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )آل عمران:101] وقال نوح عليه السلام لابنه : (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ)[
هود - الآية 43] .
فقول الشيخ رضي الله عنه : (نسألك العصمة) نريد أن نطلب منك آن تمنعنا من الذنوب بالستر عنها حتى لا نعرف طريقها، ولا تخطر لنا على بال، ولا تنزل بنا في حال من الأحوال، فتعصمنا في الحركات، التي هي التقلبات يمينا وشمالا ، وخلفا وإماما، والسكنات هي : الثبات في محل واحد، دون تقلب، وجميعها كالحركات اعتبارا بتعددها في الحالات .
والكلمات والحركات : التي هي حركات اللسان والقلب كالنطق بالحروف والاصوات .
والارادات : التي هي الميل إلي الأفعال والأقوال بحركات القلب في الاختيار .
والخطرات : التي هي حركات الضمائر في التقلبات أولها الهاجس وهو غير مأخوذ به وآخرها العزم والصحيح المؤاخذة به، وفيما بينهما اختلاف .
وهذه الخمسة هي مجاري الحسنات والسيئات، والذي يطلب العصمة منه فيها إنما هو الظنون والشكوك والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب غيوب الأسرار العرفانية والأسرار الربانية والحقائق الإيمانية التي من حجب عنها وقع في الغموم والهموم، كما أشار إليه سيدي ابن عطاء الله في حكمه بقوله : "ما تجده القلوب من الهموم والأحزان فلأجل ما منعت من وجود العيان".
ثم قوله رضي الله عنه ( الساترة ) : إلى آخره وصف للظنون والشكوك والأوهام، فهي تارة تكون ساترة، وتارة لا تكون ساترة، وقد استعاد من هذه لاعتراضها، وترك الأخرى لأنها موافقة للحق، أو غير ضارة فيه .
وقد ذكر الشيخ رضي الله عنه في هذه الجملة جميع الحركات النفسية وما فيها من النقص، فهو قد أتى فيها بتعريف النفس ونقصها ، كما أتى في التي قبلها بذكر الرب تعالى بكماله، وهذا هو العلم النافع، والحقيقة التامة، فقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن العلم النافع، فقال : "هو ان تعرف ربك ، ولا تعدو قدرك" .
وعليه مدار كلام الشيخ هنا فتأمله راشدا، وبالله التوفيق .