ثم اعلم أن الظنون والشكوك والأوهام، جمع ظن وشك ووهم : فالظن : ما ترجح من طرفي الممكن .والشك : ما استوى الراجحية والمرجوحية من الممكن . والوهم : المرجوح من الطرفين، وكلاهما مبادي الخير والشر، فيطلب صرفها لئلا تتمكن فلا يصح نفيها، كما قيل : ادفع ردى الخواطر قبل أن يسري الهم لئلا يعيبك . ومما قيل أيضا : أول الذنب الخطرة كما أن أول السيل قطرة . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إياكم والظنَّ فإنَّ الظن أكذَبُ الحديثِ) متفق عليه .
وإنما ينشأ الظن الخبيث عن القلب الخبيث لافي جانب الحق ولا في جانب الخلق، كما قيل:
إذا ساء فعل العبد ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبته بقول عدوه وأصبح في ليل من الشك مظلم
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خَصْلَتَان لَيْسَ فوقَهُما شَيءٌ منَ الخير: حُسْنُ الظن بالله،وحُسْنُ الظن بِعباد الله. وخَصْلَتَان لَيْسَ فوقَهما شيءٌ مِن الشرِّ: سُوءُ الظنّ بِالله، وسُوءُ الظنِّ بِعِبادِ الله» رواه الديلمي.
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : (قرأت ليلة "قل أعوذ برب الناس" فقيل لي : شر الوسواس وسواس بينك وبين حبيبك، يذكرك أفعاله السيئة، وينسيك أفعاله الحسنة، ويقلل عندك ذات اليمين، ويكثر عندك ذات الشمال، ليعدل بك عن حسن الظن بالله وكرمه إلى سوء الظن بالله ورسوله، فاحذر هذا الباب فقد أخذ منه كثير من العباد والزهاد وأهل الطاعة والسداد).
والعافية الكاملة هي سكون القلب إلى الله باليقين الموجب للرضا والتسليم، والبلية كلها في الشك والاضطراب والتردد بين الخواطر المتزاحمة التي لا يهنأ لصاحبها عيش ولا يقر له قرار . ومظاهر هذه الظنون والشكوك والأوهام إنما هي البلايا الظاهرة، والمحن العارضة، وقد أجراها الله تعالى لعباده المؤمنين ليميز الخبيث من الطيب، فيزداد الذين آمنوا إيمانا، ويظهر على المنافقين كفرا وطغيانا .
ومن مقتضى ذلك أن يرجع المؤمنين إلى الله بالرجاء والالتجاء وتصديق وعد الله في الامتحان والابتلاء، إذ قال تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد:31]
وقال سبحانه وتعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم}[البقرة:214]
وقال تعالى : ( ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ).[العنكبوت:1]
وإلى هذا أشار الشيخ بقوله: فقد ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا.
قلت : أتى الشيخ بهذه الجملة كالمتعذر عن سؤال العصمة، وتعريضا مما هو فيه من الشدة التي تحرك أثر النفس المثير لظهور المرض الكامن في القلب، المؤدي إلى سوء الظن بالله، كما وقع للمنافقين في شأن الخندق إذ جاءهم العدو من فوقهم ومن تحتهم ومن اسفل منهم، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظن من في قلبه شيء بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وظهر ما في قلوب المؤمنين على ألسنتهم، قال تعالى : {هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}.[الأحزاب:22]
فكأن ، الشيخ رضي الله عنه يقول : إنما سألت العصمة خوفا من الزيغ عند الابتلاء الذي لابد منه للمؤمنين حتى يميز الخبيث من الطيب، لأنه لا عاصم من أمر الله إلا من رحم ، وذلك من الشفقة على الإيمان الذي هو رأس المال وأساس الأعمال، قال تعالى : {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.[آل عمران:101]